الثلاثاء 08 يوليو 2025 م - 12 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

أصحاب الهمم.. ليسوا استثناء بل إضافة

أصحاب الهمم.. ليسوا استثناء بل إضافة
الأحد - 06 يوليو 2025 05:24 م

نبيلة رجب

20

هناك مَشاهِد تبقَى في الذَّاكرة، كأُسر تُرافق أبناءها من ذوي الإعاقة بكُلِّ حُب في الأماكن العامَّة، سواء في الحدائق أو مراكز التسوُّق. استوقفني ذات يوم مشهد أُمٍّ تحتضن ابنتها وتطبع قُبلة على جبينها قَبل أن تدفعَ كرسيَّها نَحْوَ المطعم المفضَّل لدَيْهما. كانتِ الابتسامة تشعُّ من وجهها، وكأنَّها تقول للعالَم: «رغم التَّحدِّيات، وجودهم هو النعمة الَّتي تمنح حياتنا معنى أسمى». هذه الصُّور البسيطة ترسم ملامح مُجتمع يحتضن جميع أفراده، وتطرح سؤالًا مُهمًّا: كيف نجعل هذه الممارسات الإنسانيَّة جزءًا من ثقافتنا اليوميَّة؟ وكيف نخلق بيئة يستطيع فيها الجميع أن يعيشوا دُونَ عوائق أو استثناءات؟ في سلطنة عُمان ودوَل الخليج عمومًا، تتواصل الجهود الحثيثة لتحسينِ حياة أصحاب الهِمَم، عَبْرَ تطوير المَرافق العامَّة لِتكُونَ مهيَّأة لهم، وتقديم خدمات تعليميَّة وصحيَّة تُناسِب احتياجاتهم، وصياغة تشريعات ترسِّخ حقَّهم في المشاركة الكاملة. ويبرز في السَّلطنة الاهتمام بدمجهم في العمليَّة التعليميَّة، وتهيئة المؤسَّسات الحكوميَّة والخاصَّة لاستقبالهم بروح من العدالة والإنصاف، في خطوة تعكس القِيَم العُمانيَّة الأصيلة وروح المُجتمع المتكاتف. كما نشهد في منطقتنا نماذج مُلهِمة تتجاوز التَّحدِّيات بإرادة قويَّة، مِثل الشَّاب القطري غانم المفتاح الَّذي ألْهَم الآلاف بإيجابيَّته رغم إعاقته. وفي عُمان، سطَّر العديد من الرياضيِّين والموظَّفِين والطَّلبة قصص نجاح رائعة تؤكِّد أنَّ التَّمكين المُجتمعي يفتح الأبواب للإبداع والتَّميُّز. وتبقى قصص الأُسر الَّتي تعيش هذه التَّجربة مليئة بالدُّروس. تقول أُمُّ محمد، والدة طفل مُصاب بمتلازمة داون: «تعاون المدرسة مع ابني منَحَنا طمأنينة، وساعده على التَّكيُّف اجتماعيًّا ودراسيًّا». التَّجارب العالَميَّة تقدِّم أيضًا دروسًا مُلهِمة يُمكِن الاقتداء بها. في سنغافورة، تستخدم التكنولوجيا الذكيَّة لمساعدة ذوي الإعاقة على التنقُّل بسهولة، وفي السويد والدنمارك باتَ «التَّصميم الشَّامل» مبدأً أساسيًّا عِندَ بناء المَرافق العامَّة، وفي اليابان يبرز النَّقل العامُّ كنموذج يُحتذى به من حيثُ سهولة الاستخدام. وعلى صعيد آخر، فإنَّ تمكين أصحاب الهِمَم اقتصاديًّا لا يقلُّ أهميَّة عن التَّسهيلات والخدمات. إدماجهم في سُوق العمل وإتاحة الفرص لهم تعني إنتاجيَّة أكبر، وتقليل الاعتماد على الإعانات، ومساهمة فاعلة في التَّنمية الوطنيَّة. وقد أثبتتْ تجارب عالَميَّة عديدة أنَّ استثمار قدراتهم يفتح أبوابًا جديدة للإبداع والتَّميُّز، ويُعزِّز من كفاءة الاقتصاد والمُجتمع معًا. وبالإضافة إلى التَّمكين الاقتصادي، يُمكِننا محليًّا تبنِّي مزيدٍ من المبادرات المُلهِمة، عَبْرَ تعزيز التكنولوجيا المساعدة، وإدخال لُغة الإشارة ضِمن الأنشطة المدرسيَّة، وتوسيع مفهوم «المَرافق الميسّرة» لِيشملَ كُلَّ جديد. لكنَّ الأهمَّ أنْ نستمدَّ مبادراتنا من روحنا المُجتمعيَّة الدَّافئة وقِيَمنا الأصيلة. فما رأيكم في مبادرة «جيران من ذهب»؟ فكرة تَقُوم على أن يكُونَ كُلُّ حيٍّ نموذجًا للتَّكاتف والاحتضان، حيثُ يتعاون الجيران لدعمِ الأُسر الَّتي لدَيْها أفراد من ذوي الإعاقة، من خلال المساندة اليوميَّة، وإشراكهم في الأنشطة المُجتمعيَّة والاحتفالات الوطنيَّة، ومسابقات رياضيَّة مصغَّرة أو حلقات تعليميَّة وتثقيفيَّة. إنَّ المُجتمع ينضج أكثر حين يُدرك أنَّ وجود ذوي الإعاقة في الحياة العامَّة يمنح الجميع فرصةً لتعلُّم التَّعاطف وفَهْم التَّنوُّع. الطِّفل يكتسب معنى القَبول باكرًا، والبالغ يتعلم تقدير الاختلاف، والموظَّف يطوِّر قدرته على التَّعامل مع الجميع. كُلُّ ذلك يُشجِّع الأُسر على اصطحاب أبنائهم إلى الحدائق والأسواق بثقة أكبر، ممَّا يُعزِّز التَّفاعل الإيجابي بَيْنَ الجميع. لم تَعُدِ المسألة اليوم تقتصر على توفير الخدمات، بل أصبحتْ رحلة لبناء مُجتمع يرى في تنوُّع أفراده مصدر ثراء حقيقي. المقهى الَّذي يوظِّف شابًّا من أصحاب الهِمَم، والمدرسة الَّتي تحتضن جميع الطَّلبة، والنَّادي الرِّياضي الَّذي يفتح أبوابه للجميع.. هذه ليسَتْ لقطات عابرة، بل شواهد على أنَّ المُجتمع القادر على احتواء كُلِّ أفراده هو المُجتمع الأجدر بالتَّقدُّم. طريقنا للمستقبل يبدأ من هنا: من إيماننا بأنَّ لكُلِّ إنسان مكانًا ودَوْرًا في بناء الوطن.

نبيلة رجب

كاتبة من البحرين

[email protected]