الخميس 03 يوليو 2025 م - 7 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

كمال الدرس وجلال العبرة من أحداث الهجرة «٢»

الأربعاء - 02 يوليو 2025 06:30 م

إن الناظر بعمق في أحداث الهجرة، وأسباب نجاحها، لَيَجِدُ تلك الأسباب ماثلة في كل تصرف قام به الرسول الكريم، وإن الإنسان ليتعجب من ذلك التخطيط العجيب، والنظر الرحيب لأحداثها، وحسن استغلال واستثمار كل شيء فيها، ووضع الشخص المناسب في المكان والعمل المناسب، وهو أمر يجب أن نتعلمه من الهجرة المباركة، وقد اتضح ذلك في الآتي: أولًا ـ استغلال الزمن، وتوظيفه توظيفًا دقيقًا: فقد عهدت قريشٌ في سلوك الرسول الكريم أنه لا يخرج أبدًا في وقت الهجير، وأنه يُقيِل فيه، وينام حتى يزول، ولكنه (صلى الله عليه وسلم) خرج في ذلك الوقت، ومكة مغلقة ديارها، ومَرَّ سريعًا إلى بيت أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) فلم يره أحد، ولم ترمقه عينٌ، ثم انطلقا الاثنان من الباب الخلفي الذي لم يكن أبو بكر الصديق يدخل منه، أو يخرج منه؛ زيادة في التعمية، والنجاح، وانطلقا إلى غار ثور، وزيادة في التمويه بقِيِا داخل الغار ثلاثة أيام كاملة، حتى انتهى طلبُ قريشٍ له، فخرجا يمضيان إلى المدينة المنورة، فكان حسن استغلال الوقت، وتوظيف التحرك أكبر تخطيط لإنجاح الهجرة، وتسارع أحداثها، وبلوغها أهدافها، ووصولها إلى بر الأمان. وثاني ذلك التخطيط هو: اختياره، وتنويع، وتوزيع المهام وفق كلِّ شخص تناسبه مهاراتُه، وبوسعه تنفيذُ ما وكل إليه، ويكون قادرًا عليه، وقد تمثل ذلك ما في اختياره سيدنا علي بن أبي طالب (رضي لله عنه وأرضاه)؛ ليقوم بمهمتين، الأولى: أن ينام مكان الرسول، تمويهًا بأن الرسول الكريم لا يزال ينام في مكانه، كلما نظروا من ثقب الباب، فيظلون واقفين على الباب، في الوقت الذي كان الرسول الكريم، وصاحبه قد غادرا المكان، وأخذا طريقهما إلى المدينة المنورة، والمهمة الثانية: أن يقوم برد الأمانات إلى أهلها، كما أمره الرسول الكريم، وكما هو عهد الإسلام بِرَدِّ الأمانات إلى أصحابها، فقام سيدنا علي بن أبي طالب بمهمته خير قيام، وأدى مهمته أصدق أداء، فكان اختيار الرسول له حير اختيار، وأكمل وضع للرجل المناسب في المكان المناسب، وحسن استغلال، واستثمار الطاقة، لكل شخص فيما يحسنه، ولكل إنسان فيما يقدر عليه، ويتفنن في القيام به؛ ثم نجحت كل مراحل الهجرة، وأصابت أهدافها. وثالثًا: ما عهد به الرسول للسيدة أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) جميعًا؛ لتقوم بمهمة عنصر الإمداد، والتزويد، وهي مَنْ هي مكانةً، وشرفًا، وهي الابنة التي هي ابنة لأكبر رجل، وشريف من أكبر أشراف مكة، وهي حاملٌ تنتظر الوضع، والجميع يعرفون أن الحامل إذا اقترب زمان وَضْعِ جنينها تحتاج إلى بعض المشي؛ تيسيرًا لنزول الجنين، فلا يشك فيها أحد عندما تخرج ليلًا لتمدهما بالطعام، والشراب فترة الليالي الثلاث في الغار، حتى انتهتْ مهمتُها على خير، ورحلا إلى المدينة، فهي شريفةٌ بنتُ شريفَ من كبار أشراف مكة، وهي حامل، وحُرَّة، ولا يشك في مشيها أحدٌ، فقد أحسن الرسول الكريم اختيارها لأداء مهمتها على خير وجه، ودون أن يحوم حولها الشك، فقامت بمهمتها خير أداء، ونهضتْ برسالتها، وأدَّتْ وظيفتها أصدق أداء. ورابعًا: اختيار عبد الله بن أبي بكر (رضي الله عنه)، الشاب والنشط، والذكي، والمفعم بالحيوية والقدرة، والفهم، والشجاعة؛ لينهض بمهمة الاستخبارات، وكتيبة الإمداد، والتزويد الفكري لمكة كلها، ليكون العين الربيئة، وكتيبة الاستطلاع، والمخابرات، والتزويد بالمعلومات عن أهل مكة، وطلبهم للرسول الكريم، فكان يظل يحصدُ ما في أفواه مكة طوال النهار؛ ليكون الخبر بين يَدَيِ الرسولِ، ويظل معهما يحادثهما، ويخبرهما، ويبقى معهما إلى قبيل الفجر، ويعود إلى مكة، وهي لا تزال نائمة، فكأنه كان بين ظَهْرَانَيْها، ويقوم أهل مكة، فيرونه بين أظهرهم، كأنه لم يخرج، وهو قد خرج، وبلغ، وأعطى كل قامت به قريش، وكل ما تفوهتْ به، وحصد ما دار على ألسنتها؛ لتكون ميسرة بين يدي الرسول الكريم، فكان اختياره (رضي الله عنه) قد نجح أيما نجاح في سبيل ذلك. وخامسًا: وضع عبد الله بن أريقط (رضي الله علنه)، وهو القائم على رعي أغنام لأبي بكر؛ ليحقق غرضين: الأول يقوم بِمَحْوِ خُطَا عبد الله بن أبي بكر، وثانيهما أن يقدم اللبن حليبا للرسول وصاحبه، يتزودان به، ويحلبه لهما؛ ليشربا، وينعما، ويتزودا باللبن الصابح، ويتقويا به قبل الانطلاق في رحلة السفر الطويلة، وبالفعل قام عبد الله بن أبي أريقط، خير قيام، كما أنه لا يشك أحد فيه؛ بسبب رعيه الأغنام، التي يمكن سوقها في أي وقت، ومكان. وسادسًا: دور السيدة عائشة (رضي الله عنها) كان له عجبًا، فقد كان دورًا غايةً في الأهمية، وهو أنه لما جاء جدها (والد أبي بكر) يسأل عنه، فقالت له: خرج، ولا أدري وجهته، فقال: ما ترك شيئًا لكم من المال، فسارعت، وملأت كيسًا من القماش بالأحجار الصغيرة، ووضعت عليه يده، فسكت، وقال: خيرًا، ولو لم تتصرف بذلك التصرف لرفع صوته، وعقيرته، وجمع الناس، وعرفهم، ولتمكنوا من البحث عنه، في كل مكان، ووجدوه، ولتعطلت الهجرة، وتأخرتْ كثيرًا، ولكن اختيارها كان سببًا في نجاح الهجرة مع بقية إخوتها، ويتضح بذلك حُسْنُ استغلالِ الرسول الكريم للطاقات، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وكلُّ مَنِ اختاره الرسول قاموا بمهماتهم خير قيام، ونهضوا لها أصدق نهوض. وسابعًا: حسن اختيار مَنْ يُقِلُّهم إلى المدينة، فاختار رجلًا مشركًا، ولكنه خِرِّيتٌ، أي عالم، وماهر بدروب الصحارى، وخبير بمسالكها، ومعرفة بهضابها، ومرتفعاتها، وهو عامر بن فهيرة: دليل الهجرة، فكان اختيارًا موفقًا من الله له، حيث سلك هذا الرجلُ بهم من طريق مخالف للطريق التي يسلكها الناس في العادة؛ زيادة في التمويه، وخداع مَنْ يطلبهم أسرًا، أو قتلًا، فكان رجلًا ماهرًا بدروب الصحراء، ومسالكها الصعبة، ومضى حتى نجحت مهمته، وكان الرسول قد وضع الرجل المناسب في مكانه المناسب، وأخذنا درسًا جديدًا من الرسول الكريم، مؤداه: أنه يجوز الاستعانة بالمشركين في إنجاز المهمات، شريطة أن يكونوا ماهرين بمهمتهم، وألا يكون لهم تدخُّل في مصائر المسلمين، إنما يأخذون مالًا مقابل أعمالهم، ولا يكون لهم أيُّ تدخُّلٍ في قرارنا ومصيرنا، نحن المسلمين، ولا علاقة لهم بعد انتهاء مهماتهم بأيِّ شأن من شؤون المسلمين. ومن خلال اولئك الأبطال الستة الذين أوكل إليهم مهمات خاصة قاموا بها خير قيام، وكانوا سببًا في إنجاح مجريات الهجرة، ودَلَّ ذلك على حسن اختيار الرسول الكريم لهم، وحسن توظيف كلِّ واحدٍ لمهمته، وهنا يجب أن نتعلم مبدأ، خلاصتُه حُسْنُ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولا مجال هنا لمحسوبية، أو لا اختيارَ مبنيٌّ على المعرفة، والقرابة.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]