أيها الأحباب.. توقف بنا الحديث عند تأكيد الله سبحانه وتعالى التصديق الإيماني في قلوب المهاجرين بأنه حقيقي في موضع آخر وفي سورة واحدة، فهنئاً لهم هذا الثواب العظيم بعد ذلك الظلم الجسيم، الذي وقع عليهم من غير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله، سبحان الله قام المهاجرون بتحمل تلك الصعاب استجابة لله ولرسوله إخلاصًا لدين الله ونصرة له، وما كانوا يعلمون أن الله تعالى سينصرهم ويهزم عدوهم، وأنه تعالى سيفتح لهم في الدنيا سعة ورزقًا وألفة وعزة وتمكينًا، وأنه تعالى سيرزقهم في الآخرة ثمرة هجرتهم، ولكل ما سبق كان للهجرة إعجاز وإنجاز، فأما عن الإعجاز فقد كانت العجزة معجزة بكل المقاييس، أذكر بعضاً منها: أولًا ـ التخطيط الصحيح والتصرف الدقيق: ولا يخفى على ذي ناظرة مسلم أو باحث في الإسلام أن يرى أن الهجرة قد اشتملت على تخطيط دقيق للغاية، وتصرفات محسوبة، وتوقعات مدروسة، وأعمال في منتهى الحيطة والحذر، وهذا الاعتناء كان في الحسبان بدءًا من عرض النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه على الوفود من القبائل التي تأتي لمكة سواء للزيارة والحج أو للتجارة، وقد أسفر ذلك عن نجاح قوي في ما تم من قبول بعض أهل المدينة للإسلام ودخولهم فيه، وتلي ذلك بيعة العقبة، وصولًا إلى تنفيذ الكثير من الصحابة للهجرة سرًّا قبل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم جاء الإذن له (عليه الصلاة والسلام) بالهجرة، وترتب عليه اختيار الرفيق وهو أبو بكر الصديق، ثم اختيار الوسيلة وهي الراحلتان وإطعامهما تجهيزًا لهما، ثم اختيار الدليل العارف بمسالك الصحراء الأمين على السر وهو عبد الله بن أريقط، والذي بدور اختار لهم الطريق غير المألوف وكذلك الميعاد والوقت المناسبين، فضلًا عن اختيار الملاذ الآمن لينتظروا فيه حتى تعجز قريش عن وجودهما ويبحثا عنهما في أماكن بعيدة عما هم فيه، وكان ذلك فعلا، بالإضافة إلى اختيار من يحضر الطعام والشراب لهما، ومن يخفي الأثر ومن يأتي لهما بالخبر، دقة متناهية حقيقة وهو قمة الإعجاز ثانيًا ـ التوكل على الله: فعلى الرغم من التخطيط الجيد والعمل الدؤوب والتفاني في إنجاح الهجرة، فقد اعتمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الله في كل شيء، وانتظر تأييده له سبحانه في كل خطوة يخطوها، وهذا الأمر في حد ذاته يمثل إعجازًا عظيمًا في التوكل على الله تعالى، وهذا الإعجاز هو ما جعل الإصرار في قلوبهما يزداد واليقين يثبت والأمل يتحقق. ثالثًا ـ المعجزات: وقد كان هناك من الإعجاز ما يفوق قوة العقل وهيمنته، فقد أيد الله تعالى رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) بكثير من المعجزات، خاصة في الهجرة النبوية المباركة، ومن ذلك أن أوقف سبحانه أبصار شباب قريش الذيم كانوا ينتظرونه أمام بيته ليقتلوه عن العمل، وقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من بين أظهرهم، وهم يقفون أمام بيته ولا يرون بل إنه (صلى الله عليه وسلم) أراد أن يثبت لهم أنهم خرج وهم لا يرونه فوضع التراب فوق رؤوسهم، ومن المعجزات أيضاً خيوط العنكبوت التي نسجها فوق فوهة الغار.. وللحديث بقية.
محمود عدلي الشريف