تحدَّثنا في مقال سابق عن المواجهة بَيْنَ جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة والكيان الغاصب المدعوم دوليًّا وتشخيص تلك المواجهة وأشكالها وما أسفرَتْ عَنْه من انتصار كبير حقَّقته إيران على أعدائها، بعد مخطَّط خداع كبير كان يهدف إلى إسقاط النِّظام بِرُمَّته وتغيير شكل البلاد من مقاوِم مع القضايا العادلة إلى نظام يَدُور في الفَلَك الغربي، لكنَّها (أي إيران) الَّتي لم تتوقع قوى العدوان قدراتها ودَولتها العميقة الَّتي وظَّفتْ كُلَّ الإمكانات بتوجيه درس في معنى الكرامة واستيعاب تلك الضربة المزدوجة استخباريًّا ـ عسكريًّا، وذلك الرَّد المتأني المتصاعد الَّذي شكَّل انتصارًا كبيرًا أخرج الوطن الإيراني أقوى ممَّا كان بأصالة شَعبه واستعداده لدفعِ التضحيات، ومواجهة الأعداء، وما زال الشَّعب في إيران والدَّولة عمومًا تعيش في ظلال ذلك النَّصر العزيز . حالة المواجهة اليوم بَيْنَ حق إيران في امتلاك كُلِّ برنامج علمي تقني طموح يعتمد على الذَّات الإيرانيَّة وبَيْنَ قوى الإمبرياليَّة الَّتي تسعى إلى منعِ إيران وأيِّ بلدٍ آخر لا ينتمي لتلك الإمبرياليَّة الصَّفراء. ما زالتْ إيران تسجِّل انتصارات معزَّزة بعُمق الإيمان بقضيَّتها وحقِّها ومصالحها العُليا، ولم ولن يسقطَ أيُّ مشروع وطني في أيِّ وطن معزَّز بتلك الجوانب المعنويَّة، ويَسير قُدُمًا للأمام نَحْوَ التطوير، مُبرزًا إمكاناته، محافِظًا على استقلاليَّة قراره، مُعتمدًا على نَفْسه داعمًا للقضايا العادلة، مُقاوِمًا للأعداء بكُلِّ ما لدَيْه من عناصر قوَّة تجعل الأعداء يتراجعون أمام حجم الاستعداد والتمسُّك بتلك المشاريع الوطنيَّة الكبرى، وفي التَّاريخ دروس بليغة. اليوم وبعد تراجع أهداف العدوان وتراجع قوى العدوان لا يعني أنَّ المواجهة قد انتهتْ؛ باعتبار أنَّ أهداف المواجهة هو إسقاط أيِّ دَولة أو وطن يسعَى لتعزيزِ قدراته الوطنيَّة، ويعتمد على نَفْسه علميًا وتقنيًّا ولدَيْه نهج سياسي مختلف، هذه الأوصاف سجّلت في معامل القرار السِّياسي الدّولي باعتبارها دولًا مارقة، وصُنِّفت كأعداء فُرض عَلَيْها عقوبات متنوِّعة سياسيَّة واقتصاديَّة وماليَّة في محاولة لإضعاف تلك القدرات أو انتظار مخَطَّط آخر لإسقاطها من الدَّاخل أو بأيِّ شكلٍ من الأشكال؟! لكنَّ كُلَّ خطوط العدوان فشلتْ أمام الإرادة والتصميم والقوَّة الإيرانيَّة، وبالتَّالي فإنَّ ما حدَث يُعَدُّ جولة في إطار الصِّراع الإيراني ـ الصُّهيوني. والسُّؤال هنا: هل التَّاريخ والظُّروف تخدم قوى العدوان؟ ما تحقَّق في السَّابق لقوى العدوان أعتقد ليس بالإمكان أفضل ممَّا كان، ولا يعني أيضًا أنَّ قادة إيران سيضعون وسادة من حرير مبتهجِين بما تحقَّق، بل يدركون جيِّدًا أهميَّة المواجهة وحدَّة الصِّراع، ويتوقعون مخطَّطات جديدة للأعداء بمختلف الأشكال، وما حدَث من اختراق هو درس كبير استفادتْ مِنْه إيران، ووجَّهتْ رسائل ردع وإنذار للعدوِّ بأنَّ الرَّد القادم لن يكُونَ كما كان في الجولة السَّابقة رغم الدَّمار الشَّديد الَّذي وقع فيما يُسمَّى (إسرائيل). وقد تكُونُ المواجهة القادمة تُصنَّف في موازين الرُّعب والرَّدع الاستراتيجي وتدمير المواقع الحسَّاسة والخطيرة في «تل أبيب» وحيفا وديمونا. وعودة إلى السُّؤال: هل التَّاريخ في صالح قوى الاستكبار الدّولي؟ أعتقد أنَّ ظهور أقطاب دوليَّة وإحداث توازن دولي في المرحلة القادمة كفيل بتراجع الإمبرياليَّة الغربيَّة الَّتي مكثتْ لعقودٍ تصاعدًا تقودها القوَّة الأميركيَّة، والولايات المُتَّحدة نَفْسها تدرك خطورة التَّورُّط في حرب استنزاف تكلفها التَّنازل عن مقعد الصَّدارة، وتَعْلم أنَّ القوى الدوليَّة المتربصة بها تنتظر ذلك، وبالتَّالي فإنَّ أيَّ انسياق مع حماقات الكيان الصُّهيوني هو مجازفة خطيرة خارج سياق التَّاريخ وفي الوقت الضَّائع، والدوَل الأخرى تدرك هذه المسلَّمة البديهيَّة.. فالولايات المُتَّحدة اليوم لا تسعى للدخول في مواجهات تستنزفها إلَّا في حالة واحدة فقط عِندَما تجد نَفْسها لا مفرَّ من تلك الحرب، وحينها لن تكُونَ حربًا إقليميَّة بل عالَميَّة تُشكِّل معالِم جديدة لعالَم قطبي جديد بنظام دولي آخر. إيران اليوم أقوى ممَّا كانتْ، وقد وضعتْ حسابات لكُلِّ شيء؛ بدليل تجنيب مشروعها النَّووي الضَّرر جرَّاء تلك الضَّربة المباغتة من خلال نقل اليورانيوم المخصَّب وأجهزة الطَّرد المركزيَّة إلى مواقع أكثر أمنًا، وتباعد المواقع الإيرانيَّة الحسَّاسة، واحتياطات الأمان المحيطة بها.. لذا فإنَّ برنامجها النَّووي لم يتأثرْ، ولدَيْها برنامجها الصَّاروخي المطوَّر الَّذي يُمثِّل مركز الثقل الاستراتيجي، وهو ما يجسِّد قدرات الرَّدع الإيرانيَّة، كما أنَّ لدَيْها برنامج الطَّائرات المُسيَّرة وهي لا تحتاج إلى البرنامج النَّووي عسكريًّا، وحتَّى لو تصعدتِ المواجهة نوويًّا فإنَّ الرَّدع الاستراتيجي لدَيْها كفيل بتدمير كُلِّ ما يُسمَّى (إسرائيل). فإيران قد أعدَّتِ العدَّة لذلك الآن، وبعد تطهير إيران من عملاء الدَّاخل أصبحتْ أكثر منَعة وأمنًا، وهي ومتحرزة لكُلِّ المُخطَّطات المعادية وتمتلك مشروعًا وطنيًّا مقاومًا يُمكِّنها من الدِّفاع عن مصالحها العُليا بإذن الله.
خميس بن عبيد القطيطي