منذُ الحرب العالَميَّة الثَّانية تحمَّلتِ الولايات المُتَّحدة إرث المستعمرات الأوروبيَّة القديمة الَّتي أخذتْ في الاضمحلال. عقب الحرب كانتْ فترة عُرفت باِسْمِ «الحرب الباردة» بَيْنَ الولايات المُتَّحدة والاتِّحاد السوفييتي قَبل انهياره، ووصف العالَم وقتها بأنَّه ثنائي القطبيَّة بَيْنَ موسكو وواشنطن. إلَّا أنَّ أميركا كانتْ بالفعل قد حلَّتْ محلَّ بريطانيا كقوَّة عالَميَّة مهيمنة اكتملتْ هيمنتها بسقوط الاتِّحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشَّرقي. وبعدما كانتْ أميركا تقود المعسكر الغربي المقابل أصبحتْ في وضع هيمنة عالَميَّة كقطب وحيد للقوَّة. يطلق على تلك الفترة ما بعد الحرب العالَميَّة الثَّانية «باكس أميركانا» (Pax Americana)، أي السَّلام الأميركي. وحسب التفسير المعجمي للمصطلح فإنَّه يعني فترة من السَّلام النِّسبي عالَميًّا برعاية أميركيَّة. لكن إلى أيِّ مدى كان هناك «سلام» نسبي أو شامل في العالَم في تلك الفترة؟ ليس بالكثير في الواقع. في تلك الفترة، قامت أميركا بعمليَّات عسكريَّة ضدَّ كثير من الدوَل وبلغ عدد تدخُّلاتها الخارجيَّة بالقوَّة العسكريَّة نَحْوَ مئتي عمليَّة تدخُّل. هذا طبعا فضلًا عن إثارة الاضطرابات والانقلابات وعمليَّات الاغتيال السِّياسي غير المعلنة، من اغتيال الدكتور محمد مصدق في إيران منتصف ستينيَّات القرن الماضي إلى الاغتيالات الَّتي تنفذها مخابراتها في القرن الحالي. ولم تَسْلم دول كثيرة في العالَم، خصوصًا في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة، من التَّدخُّل الأميركي المباشر أو غير المباشر من نيكاراجوا وجواتيمالا إلى كينيا وكوريا. خاضتْ أميركا عدَّة حروب كبرى في تلك الفترة من فيتنام إلى أفغانستان والعراق، فضلًا عن قصف وهجمات على ليبيا والسودان وسوريا واليمن وغيرها. ويزيد نصيب منطقتنا من تلك التَّدخُّلات المباشرة وغير المباشرة عن رُبع الاعتداءات الخارجيَّة الأميركيَّة في العقود الماضية. يصعب حصر أعداد الضحايا في تلك الحروب الأميركيَّة ولا الدمار والتخريب والأضرار الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الَّتي خلَّفتها التَّدخُّلات الأميركيَّة في الدول المستهدفة. كُلُّ ذلك إلى جانب التَّدخُّل المستمر والمتواصل حتَّى الآن بالدَّعم المطلق لـ»إسرائيل» في احتلالها فلسطين وغيرها من الأراضي العربيَّة. هناك بالطبع مَن يجادل بأنَّ السَّلام تلزمه القوَّة، وبالتَّالي ففترة السَّلام الأميركي منذُ الحرب العالَميَّة الثَّانية إلى الآن تطلبت استخدام الولايات المُتَّحدة قوَّتها العسكريَّة ضدَّ دول اعتبرتها تُهدِّد هذا السَّلام الأميركي. وأقصى ما يراه هؤلاء أصحاب هذه الحجَّة أنَّ أميركا تقوم بِدَوْر «الشُّرطي العالَمي» للحفاظ على النِّظام لذا تلجأ إلى القوَّة أحيانًا لتطبيق النِّظام. إنَّما المفارقة أنَّ العالَم منذُ نهاية الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن الماضي يحاول الوصول إلى «نظام عالَمي جديد»؛ أي أنَّه نسبيًّا «بلا نظام» يحميه الشُّرطي الأميركي بقوَّته العسكريَّة. إنَّما الواضح أنَّ كُلَّ تلك الحروب والاعتداءات والتَّدخُّلات المباشرة وغير المباشرة كانتْ بالأساس، ورُبَّما حصريًّا، لأسباب تتعلق بالمصلحة الأميركيَّة ورُبَّما حتَّى مصلحة نُخبها في السُّلطة فقط. وبعد الحرب الباردة أصبح من مصلحة أميركا «فرض» نظام عالَمي يضمن هيمنتها واستغلالها لبقيَّة العالَم، وهو ما لم تفلحْ في إنجازه حتَّى الآن. في هذا السِّياق عدَّت واشنطن كُلَّ مَن يفكر باستقلاليَّة ونديَّة ويتمسَّك بمبادئ أساسيَّة مثل السِّيادة والكرامة الوطنيَّة والمصالح القوميَّة لشَعب أو جماعة «مارقًا». وكانتْ كُلُّ حروبها وتدخُّلاتها بهدف القضاء على هؤلاء المارقين أو إخضاعهم. لا يُمكِن القول بأنَّ القوَّة العسكريَّة للشُّرطي العالَمي استنفدت غرضها، لكنَّها في الأغلب منذُ الرِّئاسة الثَّانية لجورج دبليو بوش، لم تَعُدِ الوسيلة النَّاجعة بِيَدِ واشنطن لفرض سطوتها ولا تشكيل نظام عالَمي جديد ولا حتَّى ضمان استمرار حقبة الهيمنة الأميركيَّة المعروفة باِسْمِ السَّلام الأميركي. ومنذُ الرِّئاسة الأُولى السَّابقة لدونالد ترامب تستخدم واشنطن قوَّتها الاقتصاديَّة بدلًا من العسكريَّة بالتوسُّع في العقوبات وإعادة تنظيم العولمة بتقليصها والسَّعي لاتفاقيَّات تجاريَّة تَضْمن ميزات لأميركا على حساب شركائها التجاريِّين. وكما كانتِ الاعتداءات والتَّدخُّلات تنتهك القوانين والأعراف ومبادئ النِّظام العالَمي ـ القديم الَّذي لم يحل محلَّه جديد بعد ـ فإنَّ الحروب الاقتصاديَّة تتجاوز أيضًا نُظُم وقواعد التِّجارة والاستثمار والعلاقات الاقتصاديَّة العالَميَّة. أمَّا الفارق فهو أنَّ حرب التِّجارة والاقتصاد ليسَتْ مثل الحروب العسكريَّة؛ وبالتَّالي توفِّر للرَّئيس الحالي فرصة أن يترشح لجائزة نوبل للسَّلام. يُمكِن اعتبار أنَّ سيطرة فكرة جائزة السَّلام العالَميَّة على ترامب تعكس الإحساس بأنَّ أميركا «أكملت مهِمَّتها» في فرض السَّلام العالَمي؛ أي السَّلام الأميركي، وترجَمَته العمليَّة الهيمنة الأميركيَّة. يبقى التساؤل المنطقي وهو: هل فعلًا اكتملت سطوة وهيمنة أميركا على العالَم بالقوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة وتحقِّق ما بشَّر به أحَد المفكرين الأميركيِّين الَّذي طرح مقولة «نهاية التَّاريخ»؛ أي تاريخ البَشَريَّة السَّابق وبداية تاريخ العالَم الأميركي؟ يُمكِن المجادلة بأنَّ الواقع غير ذلك وأنَّ السَّلام الأميركي، الَّذي كان كُلُّه حروبًا وعدوانًا وتدخُّلات واضطرابات، يتدهور باطِّراد. وبِغَضِّ النَّظر عن وصول العالَم إلى نظام جديد أو استمرار فترة الميوعة الحاليَّة مدَّة أطول فإنَّ حقبة السَّلام الأميركي إلى أفول. لا يعني ذلك أنَّ الهيمنة الأميركيَّة عالَميًّا على وشك الانتهاء، لكنَّها ـ بلا شك ـ تضعف وتضمحل. ورُبَّما ما لا يجعل ذلك ملحوظًا بوضوح هو أنَّه لا يوجد في العالَم بعد بديل، أو بدائل، لتحلَّ محلَّها أو تشاركها التسيُّد والسَّطوة. وعلى الأرجح أنَّه وضْع لن يطولَ أمَدُه.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري