تستطيع الأرقام أنْ تؤكِّدَ صوابَ ما يُبذل فعلًا أو تُشير إلى أنَّ الطَّريق الَّذي نمضي فيه يحتاج مراجعة، وتقف الأرقام والمؤشِّرات شاهدة على نجاعة استراتيجيَّة سلطنة عُمان نَحْوَ التَّنويع الاقتصادي المستلهم من رؤية «عُمان ٢٠٤٠». فالخطط الَّتي تعتمد عَلَيْها السَّلطنة في هذا الطَّريق تؤكِّد فكرة أنَّ النُّموَّ لم يَعُدْ مرهونًا بظروفٍ عابرة أو تحسُّنٍ مؤقَّت في الأسواق العالَميَّة، ومع إعلان المركز الوطني للإحصاء والمعلومات وصول النَّاتج المحلِّي الإجمالي إلى أكثر من (10) مليارات و(530) مليونًا و(200) ألف ريال عُماني في الرُّبع الأوَّل من 2025م، بنسبة نُموّ (4.7%) مقارنةً بالفترة نَفْسها من 2024م، تتكشف ملامح نهج اقتصادي يُعِيد تشكيل العلاقة بَيْنَ الدَّولة والموارد، ويوزّع الاعتماد على أكثر من قِطاع، فهذا الرَّقم يرصد التَّطوُّر الَّذي حدَث في الاقتصاد العُماني على الرّغم من تعقيدات السُّوق العالَمي والإقليمي.. لقَدْ تحوَّل التَّفكير الرَّسمي نَحْوَ استثمار كُلِّ فرصة، وكُلِّ نشاطٍ مهما بدَا محدودًا في الماضي، لِيصبحَ ركيزةً مُستقلَّة ترفد النَّاتج المحلِّي وتحرِّره من قيود الاعتماد الأحادي على النِّفط الخام وَحْدَه. وبهذا المعنى لا تبدو هذه القفزة الماليَّة الَّتي أصدرها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات مجرَّد نشرة إحصائيَّة بقدر ما هي ورقة اعتماد لعهدٍ جديدٍ أكثر مرونةً. حين نقترب من تفاصيل المؤشِّرات يظهر أنَّ محرِّك الأنشطة غير النفطيَّة صار أكثر ديناميكيَّة من ذي قَبل، إذ أسهَمتْ بنسبةِ نُموّ (4.1%) لِتصلَ قِيمتها إلى (7) مليارات و(132) مليونًا و(600) ألف ريال، بزيادة تجاوزتْ (280) مليونًا مقارنةً بالرُّبع الأوَّل من العام الماضي، وفي قلبِ هذه المعادلة تتصدر الزِّراعة وصيد الأسماك بمعدَّل نُموٍّ قوي بلغ (11.1%) محقّقةً (326) مليونًا و(600) ألف ريال، ما يدلُّ على أنَّ سياسة تنويع سلَّة الإنتاج الغذائي بدأتْ تخطو إلى الأمام متجاوزةً فكرة الاكتفاء المحلِّي لِتفتحَ أبواب التَّصدير أمام منتجات عُمانيَّة تحمل قِيمة مضافة، وفي الاتِّجاه الصِّناعي يبرهنُ النُّمو بنسبة (2.8%) بما يعادل مليارًا و(968) مليونًا و(800) ألف ريال، بأنَّ المصانع والمشروعات التَّحويليَّة تَسير بثقة، حتَّى إن كان المعدَّل لا يزال بعيدًا عن الطُّموح ظاهريًّا، لكنَّ جوهره يكمن في قدرته على تثبيت قِطاع صناعي وطني قادر على توفير وظائف وتحريك سلاسل إمداد محليَّة. أمَّا قِطاع الخدمات بارتفاعه بنسبة (4.2%) وقِيمته الَّتي لامسَتْ (4) مليارات و(837) مليونًا و(200) ألف ريال، فيكشفُ عن اقتصادٍ باتَ يفهمُ أنَّ الاستهلاك والتِّجارة والخدمات الماليَّة واللوجستيَّة ليسَتْ أرقامًا جانبيَّة، بل روافع حقيقيَّة لِدَوْرة المال. اللافتُ في هذا المشهد أنَّ الأنشطة النفطيَّة رغم التَّحدِّيات لم تتراجعْ عن دَوْرها المحوري في صيانة التَّوازن المالي، فقَدْ سجَّلتْ ارتفاعًا نسبتُه (6.8%) بقِيمة تجاوزتْ (3) مليارات و(706) ملايين و(600) ألف ريال، وذلك بفضل قفزة الغاز الطَّبيعي الَّذي حقَّق نُموًّا مذهلًا وصلَ إلى (89%) مسجِّلًا (970) مليونًا و(800) ألف ريال، وهذه النَّهضة تعكس جدوى التَّوَجُّه نَحْوَ استغلال الحقول والاحتياطيَّات بكفاءة أعلى، ما أسْهَم في موازنة تراجع عائدات النِّفط الخام الَّذي انخفض بنسبة (7.5%) لِيصلَ إلى قرابة مليارَيْنِ و(735) مليونًا و(900) ألف ريال. وهنا يظهر بوضوح أنَّ إدارة الموارد لم تكتفِ باستخراج النِّفط ثمَّ تصديره فقط، لكنَّها توسَّعتْ لِتشملَ الغاز كمورد استراتيجي وركيزة دعم في مواجهة تقلُّبات الأسواق، وهذا التَّنوُّع الدَّاخلي ضِمن المورد الواحد يمنح الماليَّة العامَّة استقرارًا أكبر، ويفتح الباب أمام التَّوَسُّع التَّدريجي بمشروعات الصِّناعات البتروكيماويَّة والغاز المسال لتعزيزِ القِيمة المضافة، وهو نهج يتوافق مع ما تملكه البلاد من إمكانات وخبرات واسعة في هذا المجال. إنَّ تلك القراءة في الأرقام، الصَّادرة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، تَقُودُنا إلى ضرورة النَّظر إلى هذه المؤشِّرات كدليلٍ إجرائي للمرحلة القادمة، ولا ننظر لها كأرقام لحظيَّة لا تعطي الزَّخم المطلوب، فالمشهد كُلُّه يفرض على صانع القرار والمستثمِر أنْ يتعاملَ مع الأرقام كعُقودِ ثقةٍ جديدة بَيْنَ الحكومة والقِطاع الخاصِّ، بحيثُ يستثمر زخم الزِّراعة والصَّيد في بناء صناعات غذائيَّة قويَّة، وتطوُّر قاعدة التَّصنيع لِتتحولَ من مجرَّد تجميع إلى إنتاج حقيقي ينافس إقليميًّا، وتدعم الخدمات بحزم سياسات تبسيط الإجراءات وتشجِّع على المبادرة الحُرَّة. عَلَيْه، لا بُدَّ من ترسيخ شراكات تُعِيد تعريف التَّمويل والإنتاج والتَّشغيل، بحيثُ يبقى الاقتصاد العُماني قادرًا على تجاوزِ الأزمات وكسرِ الدَّوْرات التَّقليديَّة الَّتي لَطالَما رهنتِ الدَّخل بأسعار النِّفط. ولعلَّ أبرز ما يُثلج الصَّدر أنَّ تلك المؤشِّرات تؤكِّد أنَّه ومع كُلِّ خطوة للأمام يُثبتُ العُمانيون أنَّ إرادتهم هي حجَر الزَّاوية، وأنَّ بناء اقتصاد مُتعدِّد الأذرع صار الخيار الوحيد لمستقبلٍ مزدهرٍ ومستقرٍّ يُلبِّي طموحات وتطلُّعات الشَّعب العُماني.