الثلاثاء 01 يوليو 2025 م - 5 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

في العمق: «أيادي الرقمية» تجسيد عملي لحوكمة العمل التطوعي وتنظيمه فـي سلطنة عُمان

في العمق: «أيادي الرقمية» تجسيد عملي لحوكمة العمل التطوعي وتنظيمه فـي سلطنة عُمان
الأحد - 29 يونيو 2025 05:38 م

د.رجب بن علي العويسي

50

يُشكِّل العمل التَّطوُّعي في سلطنة عُمان إحدى الرَّكائز المُجتمعيَّة المُتجذّرِة في النَّسيج الوطني ممارسةً أصيلة تُعَبِّر عن إنسانيَّة المُجتمع وتكاتف أفراده وتلاحم كياناته، وتبرز كأحَد أوْجُه النُّضج السُّلوكي والوعي الأخلاقي الَّذي يحمله المواطن في قلبه وروحه. تجسيدًا راقيًا للمواطنة المسؤولة، وانعكاسًا لصورة الوطن في ضمير مواطنيه بما يحمله من قِيَم الإيثار والتَّضحية والتَّكافل، تلك القِيَم الَّتي كانتْ على الدَّوام جزءًا من الهُوِيَّة الوطنيَّة والسَّمت العُماني الأصيل، الَّتي ترى في خدمة الآخر واجبًا، وفي تقديم العون للنَّاس أولويَّة، لا ترتبط بزمان أو مكان، بل تنبع من مكنونات النَّفْس الحُرَّة، والضَّمير الحَيِّ، والإحساس العميق بالمسؤوليَّة. فـثقافة التَّطوُّع تعبير عن أفضل السِّمات والخصائص وأجمل الخصال الَّتي يحملها المُجتمع، وتتجلَّى في الحالة العُمانيَّة، ليسَتْ مجرَّد نشاط عارض أو ممارسة وقتيَّة ترتبط بالأزمات أو الكوارث، بل ممارسة مُجتمعيَّة أصيلة ممتدَّة في عُمق الهُوِيَّة العُمانيَّة، متجذِّرة في السُّلوك، ومتأصِّلة في الضَّمير الجمعي، فتترجم القِيَم إلى أفعال، والرَّغبات إلى مبادرات، وتُحوِّل المواطنة من مجرَّد شعور داخلي إلى فعل مؤسَّسي منظَّم. وهذا ما يُعزِّز من مكانة العمل التَّطوُّعي تجسيد عملي للمواطنة، وأداة لصقل الشخصيَّة الوطنيَّة، وقِيمة تنمويَّة لا غنى عَنْها في مَسيرة بناء عُمان المستقبل. ولأنَّ العمل التَّطوُّعي لم يَعُدْ مجرَّد فعل عفوي أو استجابة لحظيَّة لموقف طارئ، بل أصبح مطلبًا تنمويًّا وطنيًّا يتقاطع مع أولويَّات الدَّولة ويواكب مستهدفات رؤية «عُمان 2040» في أولويَّة الرَّفاه والحماية الاجتماعيَّة، فقَدْ باتَ من الضَّروري أن يخضعَ هذا العمل الإنساني الجليل إلى إطار مؤسَّسي واضح، وإلى أنظمة تقييم مقنَّنة واستراتيجيَّات عمل تنظِّم أداءه، وبرامج عمل تضبط مساره وتشريعات تصون كرامة المتطوِّع، وتوفِّر له البيئة الحاضنة والدَّاعمة. ومن هنا جاءتْ منصَّة «أيادي»، الَّتي دشَّنتها وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة في الثامن عشر من يونيو لعام 2025، لِتكُونَ أوَّل منصَّة رقميَّة وطنيَّة تُعنى بتنظيم وإدارة العمل التَّطوُّعي في سلطنة عُمان، وفْقَ قواعد بيانات دقيقة، وشفافيَّة ومصداقيَّة في إتاحة الفرص، وتوثيق مهني للجهود والمبادرات التَّطوعيَّة، وتقييم عادل ونزيه للعمل التَّطوُّعي المتكامل الَّذي يصنع الأثر ويوظِّف الفرص، مرحلة جديدة من العمل التَّطوُّعي في سلطنة عُمان، عنوانها الاحترافيَّة، والحوكمة، والمأسسة، ودعوة لكُلِّ مَن يحمل في قلبه رغبة العطاء وحُب الخير أن يكُونَ جزءًا من منظومة متكاملة، تتحرك برؤيّة، وتعمل بمعايير، وتنتج أثرًا مستدامًا. وفي المقابل، هي التزام من الدَّولة بأنَّ هذا العطاء سيكُونُ مصونًا، منظَّمًا، موثَّقًا، ومقدرًا، في صورة وطن يُكرم أبناءه، ويحتفي بمبادراتهم، ويصوغ بهم ملامح مستقبله الواعد. إنَّها تجسيد عملي لحوكمة العمل التَّطوُّعي بما توفِّره من بيئة عمل سَلِسَة ومَرِنة وآمِنة للمتطوِّعين والجهات المستفيدة، وفْقَ قاعدة بيانات موحَّدة وشاملة بالمتطوِّعين والفرص المتاحة، وخلق فرص جديدة ومبتكرة تُسهم في تعزيز ثقافة التَّطوُّع في المُجتمع. إنَّ منصَّة «أيادي» تأصيل للسَّمت العُماني بما حمله من منطوق التَّطوُّع من ممارسة أصيلة عرفها العُمانيَّة والتزام أخلاقي ودِيني ومؤسَّسي لتعظيمِ الوطن في نفوس الجميع، فهي بذلك تتويج لتاريخ طويل من المبادرات والمواقف المشرِّفة الَّتي سجَّلها العُمانيون في أحلَكِ الظُّروف وأصعبِ التَّحدِّيات، كما في الحالات المداريَّة والجوائح الَّتي مرَّتْ على البلاد وهي بذلك تنقل العمل التَّطوُّعي من سياق العشوائيَّة إلى فضاء التَّنظيم، ومن العطاء الفردي إلى الفعل الجماعي المدروس، وتؤسِّس لمرحلة جديدة قوامها المهنيَّة، وسقفها التَّميُّز، وغايتها استدامة الأثر. حين تتَّسع دائرة العطاء وتتخطَّى حدود الذَّات، يُولد التَّطوُّع كقِيمة أصيلة تُعَبِّر عن حسِّ المواطنة في أسمى تجلِّياتها. إذ يتخلَّى المتطوِّع عن رغباته الفرديَّة لِيذوبَ في جماعيَّة الهدف، ويصوغ من جهده طريقًا للغير، ويمنح من وقته وطموحه طاقة تدفع الآخرين نَحْوَ الأمل. فإنَّ وجود «أيادي» بهذا الشَّكل المؤسَّسي يُمثِّل نقلةً نوعيَّة في قراءة مفهوم التَّطوُّع وفْقَ رؤى عصريَّة تتلاءم مع تحوُّلات المُجتمع، وتواكب التَّوَسُّع الهائل في مجالات العمل التَّطوُّعي، وتستجيب للحاجة الملحَّة في إدارة وتنظيم هذه الجهود بما يحفظ للمتطوِّع كرامته، ويضْمَن للجهات المستفيدة جودة الممارسة. وعَبْرَ مرجعيَّة موحَّدة تضبط وتدير وتراقب العمل التَّطوُّعي، وتحمي الفِرق التَّطوُّعيَّة من الممارسات غير المنضبطة، وتُتيح لها العمل في ظلِّ غطاء قانوني ورسمي واضح، يُمكِّنها من أداء دَوْرها بكفاءة واطمئنان. وهو ما تُمثِّله «أيادي» اليوم من خلال توفيرها لآليَّات التَّسجيل والتَّوثيق والمتابعة والتَّقييم، وما تُتيحه من إمكانات لتتبُّع الأنشطة وتحليل البيانات وصياغة مؤشِّرات أداء تُسهم في تطوير السِّياسات وتحسين الممارسات، في بيئة عمل عادلة، قائمة على المهارات والكفاءات، وتشجِّع المؤسَّسات على احتضان المبادرات التَّطوُّعيَّة، وتُحفِّز المُجتمع على المشاركة الفاعلة، وتُشرك الشَّباب في صياغة حلول حقيقيَّة لمُشْكلات مُجتمعيَّة، ضِمن أُطُر واضحة ومُقنَّنة. وهنا يأتي الدَّوْر الرّيادي لمنصَّة «أيادي»، الَّتي لا تقتصر على إدارة الفرص التَّطوُّعيَّة، بل تُمثِّل واجهةً وطنيَّة متكاملة تُعَبِّر عن حضور الدَّولة وحرصها على دعم المبادرات المُجتمعيَّة، من خلال توحيد الجهود، وتفعيل نُظُم التَّقييم، وتحقيق التَّكامل بَيْنَ الطَّاقات الشَّبابيَّة والمؤسَّسات الرَّسميَّة والخاصَّة. وعَلَيْه، يبقَى استمراريَّة نجاح المنصَّة مرهونًا بتكامل جهود مؤسَّسات التَّعليم والإعلام ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي في تعظيم القِيمة المضافة للمنصَّة كنموذج وطني يُحفِّز على المشاركة التَّطوُّعيَّة، وتحويلها إلى سُلوك دائم، يتَّصل بالهُوِيَّة والوجدان والالتزام الأخلاقي والإنساني. ثمَّ فإنَّ الاستثمار في هذه المنصَّة يَجِبُ أن يتوازى مع الاستثمار في الوعي، والتَّدريب، والتَّأهيل، والتَّثقيف، ووضع التَّشريعات والسِّياسات الَّتي تكفل لهذا القِطاع الحيوي الاستمراريَّة والنَّماء؛ فإنَّ الانتقال بمنصَّة أيادي كغيرها من المنصَّات الرَّقميَّة الَّتي سعَتْ وزارة التَّنمية الاجتماعيَّة إلى إطلاقها في فترات سابقة مثل «منصَّة جود الخيريَّة» يستدعي جهدًا أكبر وعملًا أدوَم وعطاء أعظمَ وتبنِّي سياسات ترفع من سقف معايير التَّطوُّع المنظَّم والمؤطَّر والمحفِّز، والَّذي ينطلق من رؤية وطنيَّة ويتحرك في بيئة محفِّزة، ويخضع لآليَّات واضحة تُنظِّم الجهد وتحميه وتطوِّره. وباتَ وجود «أيادي» كغيرها استجابة للطُّموح الوطني وإجابة على التَّساؤلات الَّتي تُطرح حَوْلَ تقنين العمل الاجتماعي التَّطوُّعي وحوكمته وضمان استنطاق القِيَم واستنهاض الدَّوافع وتوظيف الثَّروة القِيميَّة والأخلاقيَّة مع ربط هذه القِيَم بمأسسة العمل التَّطوُّعي، فقَدْ باتَ العمل التَّطوُّعي اليوم أكثر احتياجًا إلى مأسسة، وأكثر ارتباطًا بالتَّخطيط، وأكثر حاجةً إلى وضوح في المرجعيَّات والمفاهيم، وأكثر استحقاقًا لحماية المتطوِّعين وتشجيعهم. أخيرًا، يبقَى التَّساؤل المطروح: ماذا بعد تدشين منصَّة «أيادي»؟ وما التَّحوُّلات الَّتي يُفترض أن تطرأَ على ثقافة التَّطوُّع في مُجتمع سلطنة عُمان؟ كما أشرنا إلى أنَّ المنصَّة تُمثِّل طموحًا مُجتمعيًّا؛ كونها تقرِّب العمل التَّطوُّعي من الطَّالب ووليِّ الأمْر والموظف والمتقاعد من الجنسَيْنِ، في إطار من الوعي والمسؤوليَّة والتَّمكين والمنافسة القائمة على الاستفادة من المؤشِّرات والإحصائيَّات والبيانات الَّتي يُمكِن أن تُمثِّلَ فرصةً لقياس مستوى الوعي بالعمل التَّطوُّعي، وهو أمْر يتقاطع مع ما نتائج المسح الَّذي قدَّمه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في استطلاع التَّرابط الاجتماعي بَيْنَ العُمانيِّين لعام 2023 من أنَّ (62.9%) من العُمانيِّين يشاركون في الأعمال الخيريَّة، فإنَّ منصَّة «أيادي» خيار استراتيجي يرفع سقف تحقيق التَّكامل بَيْنَ الجهات الحكوميَّة والخاصَّة، وتحفيز المُجتمع على المبادرة والعطاء، وتعزيز الشَّفافيَّة والثِّقة في العمل التَّطوُّعي والخيري. وبناء نموذج وطني يتشارك الجميع في صناعة محتواه ينشط في بيئة التَّعليم والتَّعلُّم كما في الأُسرة ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي وأروقة المؤسَّسات والمُجتمع الوظيفي، واضعًا الرَّصيد القِيَمي وثراء التَّجربة والخبرة وتراكميَّة النَّماذج الوطنيَّة في صناعة آفاق التَّطوُّع وتطوير منصَّاته مدخلات لرفعِ درجة الوعي وتعزيز فرص التَّحفيز، وتوجيه العمل التَّطوُّعي إلى ميادين المنافسة وعرصات الإنجاز، من خلال تعظيم النَّماذج الإيجابيَّة في العمل التَّطوُّعي القائمة على وضوح المعايير وكفاءة الأدوات وقِيمة المحتوى ورصانة منهجيَّات العمل، في سبيل إنتاج ممارسة تطوُّعيَّة عالية الجودة، تضْمن نُموَّها في المُجتمع وقَبولها من مختلف الفئات تنطلق من المدرسة وبيئات التَّعلُّم مرورًا بالأُسرة والسَّبلة العُمانيَّة ومؤسَّسات المُجتمع الأهلي والمُجتمع الوظيفي بروح عالية ملؤها الرَّغبة والشَّغف وحُب الخير. إنَّ العمل التَّطوُّعي بذلك مساحة أمان تقرأ فيها كُلُّ يدٍ ممتدَّة بالعطاء، صفحة بيضاء ناصعة تُكتب بماء الذَّهب في صفحات الوطن المُشرقة.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]