الجمعة 27 يونيو 2025 م - 2 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

كمال الدرس وجلال العبرة من أحداث الهجرة «1»

الأربعاء - 25 يونيو 2025 05:38 م
10

كلما اقترب زمان الهجرة النبوية الشريفة استشرفت النفس دروسًا غواليَ، وعظاتٍ عواليَ، وراح المرءُ يعيش أحداثها، ويستجلي جمالها، وكماله، وجلالها، فكلُّ قولٍ، وفعلٍ فيها نستقي منه نصائحَ، ونتعرف دروسَ الحياة، والرسولُ في كل ما يصدر عنه إنما يكون من قبيل الوحي: (إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى، عَلَمَهُ شديدُ القُوَى). وسنركز هنا على دروس نحتاج إليها في مشوار حياتنا كلها؛ حتى نلقى ربنا، ونرى نبينا، ونشكره كلَّ الشكر على ما أسدتْه يداهُ الشريفتانِ إلى تلك الدنيا، وذاك الكون، وكل ما فيه من إنسٍ، وجنٍّ، وإنسانٍ، وحيوانٍ، وجمادٍ، ونحوه من مكونات الوجود. لقد كانت هجرته نورًا، وفتحًا لهذا الكون الرحيب، ولا تزال سيرته ينتفع بها الناس في كل مكان، وزمان، وهو وسيرته دومًا موجودان بين ناظرَيْنا لا يجوز أن نتقدم عليه بقولٍ أو بفعلٍ، كما قال رب العالمين في مطلع سورة الحجرات:(يَا أَيُّهَا الَذينَ آمَنوا لا تُقدِّموا بَينَ يَدي اللهِ وَرَسُولِهِ، واتَقُوا اللهً إنًّ الله سَمَيعٌ عَليمٌ). وأولُ تلك الدروس هو دراسة الأمر، وحُسْنُ التخطيط له، والسهرُ عليه، وعلى إنجاحه، وبُعْد النظر، ودراسة العواقب كلها؛ سعيًا إلى إنجاحه، وارتقابًا لكريم عاقبته. فعندما علم أن الله قد أُذِنَ له بالهجرة فكَّرَ، ودَرَسَ: من سيكون معه سندًا بعد الله، ومُعينًا، فبحث في أصحابه حتى اختار رفيقَه في حياته، وظلِّه، وموضعِ سِرِّهِ، ومن يثق فيه ثقة تامة، وهو سيدنا أبوبكر الصديق (رضي الله عنه)، وهو من أول السابقين إلى الإيمان به، وبرسالته الشريفة، وهو مَنْ سخَّر كل ماله، وجهده، وعياله، ووضع روحَه على كفه؛ لنجاح كل ما يصدر عن النبيِّ الكريمِ، وهو الذي اختاره؛ ليصلي بالناس عند مرضه، وكان معه كظله، يكون معه حيثما كان، ولا يفارقه في مكان، ولا زمان، وكَرَّسَ حياته، وروحه لله (رضي الله عنه) ووقف وقته، وزمنه، وفكره، وروحه بين يَدَيْ ربِّه سبحانه. فأولُ درسٍ نتعلمه هو حسنُ اختيار الرفيق، ودقةُ النظر في كلِّ ما حولنا من صديق، ودراسة كلِّ حياته، والوقوف على عقله، وفكره، ومدى استعداده لتحمل الأمانات، وقد أثبت الواقع ـ في كل مراحله ـ أن الرسول الكريم كان موفقًا كلَّ التوفيق، ومؤيدًا كل التأييد في اختيار الصِّدِّيق، فهو ذراعه الأيمن، وسنده القريب، وعونه، وقلبه الحبيب. فقام سيدُنا أبو بكر، واشترى ناقتين، وعهد بهما إلى أحد الناس بالقيام على شأنهما: إطعامًا، وشرابًا؛ حتى إذا حانت ساعة الهجرة، وجدهما على أكمل صورة، وأقوى هيئة، وأكبر تحمُّل، وهنا نتوقف أمام أمر مهم للغاية، يتناساه كثيرٌ من الدعاة، وهو أن الرسول لم يقبل أن يدفعَ سيدُنا أبو بكر ثمن الناقتين وحده، ومِنْ ماله الخاص، بل أَصَرَّ الرسول الكريم على دفع ثمن الناقة، حتى بعد أن ألحَّ سيدُنا أبو بكر في أن يدفع ثمنها، فأبى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وقال قولته الشهيرة:(وما أنا بأغنى عن الأجر منك). وهنا نأخذ درسًا وهو: أننا لا نأكل، أو نتكسب من دعوتنا، ولكنْ، ونحن نصرف عليها، ونتحمَّل تبعاتِها، وندفع أرواحنا في سبيلها، وفي سبيل نشرها، فبعض الناس يأكل من المشاركة في أعمال دعوية، وجلسات من أجل تدريس شيء عن الخُطَبِ، وكيفية شغل الدروس الدينية، بل قد يأخذ ما لم يقدِّم فيه جهدا، وينافح عن ذلك، وهو أمر لا يليق بالداعية الصادق؛ لأن الأصل أن الدعوة هي غايتُنا، وفي سبيلها ندفع كلَّ غالٍ، ورخيصٍ حتى نصلَ بها إلى بَرِّ الأمانِ، ونتحمل في سبيل ذلك كلَّ مالٍ، وجهدٍ، ووقتٍ، ودراسةٍ، وسفرٍ، ونحوه، فلابد أن يضع الداعيةُ ماله، وجهده، وروحه، ووقته، وتفكيره بين يَدَيْ رَبِّهِ؛ وابتغاء وجهه الكريم، ورجاءً لقبول أنفاسه، وطمعًا في رضاه، واستنزال عفوه، وفضله، ورحماه، وطمعا في تأييده، وتقويته، وإعانته في طريق دعوته، وسبيل ربه. جاء في بعض كتب السيرة المطهرة هذا الدليلُ في دفع الرسول الكريم لثمن ناقته التي هاجر عليها ما يأتي:(لَقَلَّ يَوْمٌ كانَ يَأْتي علَى النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ إلَّا يَأْتي فيه بَيْتَ أبِي بَكْرٍ أحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ له في الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إلَّا وقدْ أتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ به أبو بَكْرٍ، فَقالَ: ما جَاءَنَا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ في هذِه السَّاعَةِ إلَّا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ لأبِي بَكْرٍ: أخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما هُما ابْنَتَايَ ـ يَعْنِي عَائِشَةَ وأَسْمَاءَ ـ قالَ: أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؟. قالَ: الصُّحْبَةَ، يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الصُّحْبَةَ، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ عِندِي نَاقَتَيْنِ أعْدَدْتُهُما لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إحْدَاهُمَا، قالَ: قدْ أخَذْتُهَا بالثَّمَنِ). ونحو:(وكان أبو بَكرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ قدِ اشتَرى، وأعَدَّ ناقتَينِ له، وللنَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فلمَّا حانَتِ الهِجْرةُ عرَضَ إِحداهُما على النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فقَبِلها النَّبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ ولكنْ بِقيمَتِها.( وفي هذا الحَديثِ مَنقَبةُ، وفضْلُ سيدِنا أبي بكر الصِّدِّيقَ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ وفيه كذلك ما يَدُلُّ على إيثارِهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ لمَنْفَعةِ أبي بَكرٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ حيثُ أَبَى أنْ يَأخُذَ الرَّاحلةَ إلَّا بالثَّمنِ. فأول درس من دروس الهجرة الكثيرة، والمباركة هو السبقُ بالإعداد، والتجهيز، والسهر، والدراسة، ومواصلة المراقبة، وبعد ذلك تحمُّل المطلوب في سبيل إنجاز المهمة، سواء كان التحمل ماليًّا، أو تحمّلًا بالجهد، وصرف الوقت، وبالفكر، والاجتهاد، ولا يأكل الداعية من دعوته، أو يتكسَّب منها، ويبذل في سبيلها كلَّ غال، ورخيص، ويقدم روحه نفسها في سبيل النهوض بها، ووصولها إلى غايتها، وتحمُّل كلِّ ما من شأنه نجاحُها، وبلوغُها أهدافها، كما فعل الرسول الكريم بماله، ووقته، وجهده، وبذل كلِّ ما من شأنه نجاحُ الهجرة، أو العمل الدعوي، وقد حصل له ما انتواه؛ بسبب إخلاصه، ودأبه، وجِدِّهِ، واجتهاده، وبذله كلَّ الطاقات؛ لتنتهي المهمة على خير وجه، وأكمل صورة، وليكون ذلك صورة عملية تطبيقية لقوله تعالى:(أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلوا الجَنَّةَ وَلمَّا يَعلَمُ الذَينَ جَاهَدوا مِنكُم، ويَعلمُ الصَّادقين)، وليكون على وفاق قوله تعالى:(ادُعُ إٍلى سَبيلِ رَبكَ بِالحِكمةِ والمَوعِظةِ الحَسنةِ..).

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]