في هذا الشَّرق الَّذي أنهكَتْه الصِّراعات، لا يحتاج العدوُّ الصُّهيوني إلى أدلَّة جديدة كَيْ يكشفَ عن وجْهِه الحقيقي، فكُلُّ قذيفةٍ تسقطُ على غزَّة، وكُلُّ طفلٍ يُنتشل من تحت الأنقاض، وكُلُّ مستشفى يُمحَى من الخريطة، هو شهادة دامغة على أنَّ كيان الاحتلال الصُّهيوني لا يؤمن بالسَّلام ولا يسعَى إِلَيْه! وما يرتكبه اليوم من حرب إبادة منظَّمة، يتجاوز كُلَّ ما عُرف من حروب، ويضع الإقليم بِرُمَّتِه على حافَّة الاشتعال، خصوصًا وأنَّ اعتداءاته تخطَّتْ كافَّة الحدود وانتهكَ سيادة دوَل الإقليم، واستهدف قادتها كأخسِّ تنظيم إرهابي.. لذا فالحديث عن هدنة أو تسوية في ظلِّ هذا الإجرام ليس إلَّا استراحة للقاتل، يلتقطُ فيها أنفاسه قَبل جولةٍ جديدة من الدَّم، فمَن يُتابع خِطابات هذا الكيان وقراراته العسكريَّة والسِّياسيَّة يُدرك أنَّ مشروعه الاستراتيجي يَقُوم على الإقصاء والإبادة والهيمنة. لذلك، فإنَّ أيَّ مقاربة واقعيَّة للتَّعامل مع هذا العدوِّ لا يُمكِن أنْ تنفصلَ عن لُغة الرَّدع الفعليَّة، الرَّدع الَّذي لا يتحقَّق بالكلمات، وإنَّما بفعل القوَّة الميدانيَّة الَّتي يفهمها هذا الكيان الَّذي يتغذَّى على رماد الحروب. رغم كُلِّ صرخات المُجتمع الدّولي المُنمَّقة، لا يزال يعجز عن التَّعامل مع هذه الحرب بوصفها جريمة كاملة الأركان، وتجارب الشُّعوب ـ الَّتي تعرَّضتْ للاحتلال ـ تقول إنَّ الإفلات من العقاب هو الوقود الَّذي يُبقي نيران العدوان مشتعلة، فما لم يتمَّ فرضُ محاسبةٍ حقيقيَّة وصارمة على الجرائم السَّابقة للكيان الصُّهيوني، لن يكُونَ لأيِّ وقفِ إطلاق نار معنى سوى إعطاء القاتل مهلة لإعادة ترتيب أدواته فإقرار العدالة يحتاج أوَّلًا محاكمة المُجرِمَين، ومساءلة مَنْ أمَروا ومَن نفَّذوا، وإلَّا ستظلُّ دماء الأبرياء مادَّة للتَّفاوض، وستتحوَّل المبادرات إلى أوراق مهترئة في أدراج الأُمم المُتَّحدة، فقط حين يُجبر المعتدي على دفعِ ثَمَن ما ارتكبه، يُمكِن الحديث عن وقفِ إطلاقِ نارٍ يستند إلى ضمانات أمنيَّة صارمة، تفرض التزامات لا تَقبل الالتفاف، وتُرتِّب عقوبات قاسية على مَن يحاول العبث بالاتِّفاقات أو تفجيرها. لكنَّ العدالة لا تكتمل دُونَ تحرُّك موازٍ على جبهة أكثر حساسيَّة، وهي الجبهة الاقتصاديَّة والتقنيَّة، لا يُمكِن أنْ يستمرَّ العالَم في التَّنديد بالعدوان، بَيْنَما خزائن السِّلاح مفتوحة أمام المُعتدي، والتقنيَّات الدَّقيقة تُنقَل إِلَيْه ليلًا ونهارًا تحت لافتة (حقُّ الدِّفاع عَن النَّفْس)؟! لقَدْ حان الوقت لإغلاق هذا الباب، فكيان الاحتلال الصُّهيوني الَّذي ينتهك سيادة دَولة أخرى ويَحرق فيها المدارس ويَغتال قادتها والأطبَّاء والصحفيِّين ويَستهدف البنية الأساسيَّة لا ينبغي أنْ يظلَّ متفوِّقًا في الجوِّ والبَرِّ والفضاء عَبْرَ دعم دولي متواطئ، وإنَّما يَجِبُ فرض قيود صارمة على تزويد هذا الكيان بأيِّ دعم عسكري أو تقني، وفرض عقوبات اقتصاديَّة تضع حدًّا لعنجهيَّة القوَّة الَّتي يتَّكئ عَلَيْها، وهذا النَّوع من الحصار يندرج في إطار إصلاح المعادلة المُختلَّة الَّتي تسمحُ لمحتلٍّ بأنْ يكُونَ أقوى من جميع ضحاياه مُجتمعِين، وفرض التَّوازن يحتاج إلى شجاعة سياسيَّة تعترف بأنَّ فرضَ الأمْر الواقع على المعتدي هو المدخل الحقيقي لأيِّ مسار تفاوضي صادق. وفي خضمِّ هذه المعركة المصيريَّة، يَجِبُ ألَّا نغفلَ الهدف الأسمى وهو فرض طريق السَّلام العادل الشَّامل، المستند إلى قواعد القانون الدّولي والشَّرعيَّة الدّوليَّة، وعلى رأسها إقامة دَولة فلسطينيَّة مُستقلَّة ذات سيادة كاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس، فهذا السَّلام تحوَّل إلى معادلة أمْن دولي لا تحتمل التَّأجيل، وأنَّ استمرار الاحتلال ـ بسُلطته الغاشمة وممارساته القمعيَّة ـ يُمثِّل تهديدًا يوميًّا لمنظومة القوانين الَّتي يتغنَّى بها العالَم، ويكشف عن ازدواجيَّة فاضحة في التَّعامل مع مبادئ العدالة وحقوق الإنسان. إنَّ العالَم لن يعرفَ الاستقرار ما دامتْ هناك دَولة فوق القانون، تُشرِّع قتْلَ المَدَنيِّين وتطبع مع المجازر اليوميَّة باِسْمِ الأمن القومي.. لقَدْ آنَ الأوان أنْ يُعادَ ضبط ميزان العدالة الدّولي على أساس حقوق الشُّعوب لا قوَّة الجيوش، فسلامٌ بلا عدالة هو استسلام، وسلامٌ لا يَضْمن الحقوق التَّاريخيَّة والوجوديَّة للشَّعب الفلسطيني هو مجرَّد تمديد مؤقَّت للأزمة.