الجمعة 27 يونيو 2025 م - 2 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

فيتنام.. شعب أطلق شرارة النضال فحصد جائزة الحرية والتقدم «٦ـ٦»

فيتنام.. شعب أطلق شرارة النضال فحصد جائزة الحرية والتقدم «٦ـ٦»
الأربعاء - 25 يونيو 2025 05:21 م

سعود بن علي الحارثي

20

خامسًا: عالَم يحتضن عوالم.

•tفيتنام بلد آمِن يشعر زائره بالرَّاحة والطُّمأنينة، على عكس ما كنَّا نتوقَّعه، فلم نصادفْ خلال تطوافنا في عدد من مُدُنها ما يعكِّر المزاج ويعيق الحركة ويعسر تنفيذ برنامجنا المُعد، ولم نسجلْ مؤشِّرات لاستغلال يستهدف السَّائح ولا حالات تسوُّل ومحاولات لسرقة ما نأخذه معنا داخل الأسواق وخارجها.. وهذا ما أشار له الأستاذ بدر العَبْري في مقال له بعنوان «عيد الفطر في هانوي»، فعِندما طلَب مِنْه جماعة المسجد، «مشاركتهم التَّهجد والسُّحور، قلتُ لهم: رُبَّما يصعب أن أخرجَ متأخرًا بعد الثَّانية والنّصف ليلًا، وأنا غريب هنا، فتبسَّموا، وقالوا: أنْتَ في فيتنام، والمكان آمِن جدًّا». •tيتميَّز الشَّعب الفيتنامي بالصَّلابة والإرادة القويَّة والجديَّة، حيثُ تفصح المشاهدات، امتهانه وقيامه بكُلِّ المِهن والاشتغال بالصِّناعات على اختلاف مراتبها، والعمل في جميع الوظائف الرَّفيعة والمتواضعة، وحتَّى كبار السِّن يجتهدون في تولِّي الأعمال الشَّاقة ويعتمدون على أنْفُسهم في قضاء حاجاتهم، لقَدْ علَّمتهم الحروب ومراحل الحياة الشَّاقة الَّتي مرّوا بها، النَّجاح والإرادة وكيفيَّة إدارة وتيسير شؤونهم وقضاء ما تتطلبه معيشتهم من ضرورات، وهو ـ أي الشَّعب ـ يَقُود بلاده بثقة، إلى المستقبل، إلى المزيد من التَّقدُّم والازدهار والانفتاح. وقد تصالحَ مع تراكمات الماضي، وتجاوز مشاعر العداء والضَّغينة والأحقاد، فمُعْظم من سألناهم عن أحاسيسهم تجاه الأميركان الَّذي يأتون بأعداد كبيرة إلى بلادهم سيَّاحًا ومستثمرِين وباحثين، أجابوا مؤكِّدين أنَّ ذاك زمنٌ مضَى وهذه أجيال جديدة، وعصر مختلف، والشُّعوب ليسَتْ لها علاقة بسياسات ومصالح الأنظمة الحاكمة وأخطائها، ومن اتَّخذوا قرار احتلال فيتنام وناصبوا شَعبها العداء في سبعينيَّات وثمانينيَّات القرن الماضي ليسوا هم ساسة اليوم، وفيتنام في حاجة إلى الاستثمارات والموارد الماليَّة والانتعاش السِّياحي واستيعاب أسباب التَّقدُّم والاستفادة من تجارب الدوَل في هذا المجال، وهو ما أشار إِلَيْه «داريوش شايجان»، في كِتابه «الهُوِيَّة والوجود»، فعلى سبيل المثال، لم «تبكِ بُلدان جنوب آسيا، على أطلال أمجاد الماضي الغابر، فقَدْ فوجئت من ضآلة الضَّغينة الَّتي يكنُّها الفيتناميون للأميركيِّين، فقَدْ كان لسان حالهم يقول «لقَدْ بدأنا صفحة جديدة، فليأتِ الأميركيون للاستثمار لدَيْنا، فلا نحمل أيَّ حقد لهم». •tفيتنام عالَم ضخم، في داخله ـ لِمَن تمعَّن ودقَّق واستوعب ـ تتبَيَّن تفاصيل التَّفاصيل، عوالم صغيرة تُشكِّل ملامح البلد الكبير بعدده البالغ مئة مليون إنسان، وخمسة ملايين درَّاجة ناريَّة في «هانوي» وحْدَها، التَّدافع والاختلاف على أشدِّه، والتَّباينات والاحتياجات والتَّطلُّعات بَيْنَها عميق، والتَّفاوت بَيْنَ الطَّبقات والشَّرائح واضحٌ وجلِي، عوالم لا يتبَيَّنها ولا يكتشفها إلَّا مَن يَسير برجلَيْه لمسافات طويلة داخل الأحياء والأسواق والطُّرق والشَّوارع القديمة والحديثة، العصريَّة والشَّعبيَّة، مَن يتحدَّث إلى النَّاس ويقرأ ويبحث، ويرى ويلاحظ ويغوص في الملامح والأزقَّة والسُّلوكيَّات... المعاناة والفقر والحياة الشَّاقة، البيوت المهترئة والأحياء الهشَّة الأقلّ من متواضعة الَّتي يصعب وصفها ببيوت وأحياء، إنَّها أقلّ من ذلك بكثير، عشرات الآلاف من السيَّارات والعربات والدرَّاجات الهوائيَّة والنَّاريَّة والبَشَر، يتدافعون في الشَّوارع والطُّرق ويزاحمون بعضهم بعضًا للحصول على لقمة العيش وممرٍّ يؤمِّن لهم سلامة الوصول إلى الشَّاطئ الآخر بأمان، يتوجَّهون إلى أعمالهم ومِهنهم وتجارتهم وقضاء حاجاتهم، وبعض الأعمال الشَّاقة المُهينة المؤلمة إنسانيًّا، ووضع مزرٍ أراه بعيني، وموقف محزن يستوقفني فأتساءل، هل تستحقُّ هذه الحياة أن تعاش؟ وهل هي حياة أم موت بطيء يستنزف الأجساد تدريجيًّا قَبل حلول الموت؟ إنَّها حياة تقتل صاحبها كُلَّ لحظة وثانية، فهي إذن أسوأ من الموت... غنى فاحش وفقر مُدقع، أحياء راقية وعشوائيَّات مُزرية، وبَيْنَهما درجات ومستويات لا حصر لها، مؤمنون ولا دينيون، بوذيون ومسيحيون ومُسلِمون، شماليون وجنوبيون، طوائف وأعراق ومذاهب شتَّى، ومع ذلك فالوطن هو كُلُّ ما يملكون، أرض الآباء والأجداد والانتماء، مكان الولادة والموت، فيه يقضون سنوات الطُّفولة والهرم، يجمعهم كُلّ ما فيه خيره وصلاحه وحُريَّته، ينصهرون في بوتقة واحدة وكأنَّهم عنصر وجسد وعضو متَّحد داخل الوطن، الأمن والأمان والاستقرار، غياب كُلِّ صوَر الاستغلال والتَّسوُّل والكذب واحتقار الآخر تهيمن على المشهد في تجلِّياته الكاملة، وكأنَّ الفيتنامي هو كُلٌّ داخل الفرد . •tالثَّقافة الفيتناميَّة السَّائدة اليوم، والَّتي تتنافر وتتلاقح وتُشكِّل أعراف وأخلاق وسُلوكيَّات وعلاقة المُجتمع بالدِّين... وليدة ثلاث ثقافات، المحليَّة المرتبطة بالتَّاريخ والجغرافيا والتَّقاليد الموروثة، والثَّقافة الصينيَّة، خلاصة الكونفوشيَّة والبوذيَّة والشيوعيَّة، بحكم الجوار والهيمنة واستعمار الصِّين لفيتنام لمددٍ تجاوزتِ الألف عام، وهما معًا المحليَّة والصِّينيَّة، الأكثر امتزاجًا وقربًا وتداخلًا وتأثرًا ببعضهما خصوصًا في الشَّمال، وأخيرًا الثَّقافة الغربيَّة، بحكم استعمار بلغ المائتي عام، وهو ما يفسِّر ارتفاع أعداد الفيتناميِّين الَّذين لا يؤمنون بأيِّ دِين، أي لا دِينيِّين، على عكس دوَل شرق آسيا كتايلاند، الَّتي تحتشد في سيَّارات ومنازل مواطنيها ومؤسَّساتها أشكال من التَّماثيل والطُّقوس والصوَر المرتبطة بالبوذيَّة، وماليزيا وإندونيسيا البلدَيْنِ المُسلِمَيْنِ... فيما يتشدد بعض الفيتناميِّين عقديًّا ويمارسون طقوسهم الدِّينيَّة بانتظام، وبالنَّظر إلى طبيعة الآسيوي في بُلدان شرق آسيا الهادئة، وغنى الثَّقافة محتوًى ومنبعًا، فإنَّ الثَّقافة العامَّة وإن تنافرتْ فيما بَيْنَها، إلَّا أنَّها لا تُلغي الآخر ولا تحتقره، بل تحترمه وتنظر إِلَيْه كمكسب وطني، فالجميع يمارس طقوسه الدِّينيَّة ومنهجه الفكري ورؤيته الأخلاقيَّة وخياراته في التَّعامل مع الحياة والمُجتمع، ويعَبِّر عن وجهات نظره منعتقًا من أيِّ قيود، دُونَ أن يعتديَ أحَدهما على حُريَّات ومعتقدات وخيارات وطُرق الآخرين... •tالمكاتب السِّياحيَّة والفنادق والخدمات المرتبطة بها حريصة على الالتزام بالاتِّفاقات المعتمدة مسبقًا مع السَّائح، وجادَّة في تقييم خدماتها والتَّعرُّف على رأي الزَّائرين والمستفيدين، والاعتذار عن أيِّ خطأ حدَث سهوًا وبِدُونِ قصد، وعازمة على تطوير خدماتها وإرضاء السَّائح وضمان مغادرته بلادهم شاعرًا بالامتنان مقتنعًا بجودة الخدمات السِّياحيَّة الفيتناميَّة وصناعتها، والاعتماد عَلَيْه في التَّرويج لقناعاته وإيمانه وآرائه الَّتي قد تؤتي أُكلَها بقرار الكثيرين زيارة فيتنام أو تكرارها مرَّات، إنَّه الوعي العميق بِدَوْر هذا القِطاع المُهمِّ في تنويع وتعزيز وإثراء مصادر الدَّخل...

سعود بن علي الحارثي

[email protected]