الجمعة 27 يونيو 2025 م - 2 محرم 1447 هـ
أخبار عاجلة

فوضى عالمية جديدة

فوضى عالمية جديدة
الأربعاء - 25 يونيو 2025 05:16 م

د.أحمد مصطفى أحمد

150

منذُ نهاية الحرب الباردة قَبل ما يقرب من نصف قرن الآن لم تتمكنِ القوَّة العظمى الوحيدة المتبقِّية في العالَم من ترسيخ «نظام عالَمي جديد». بل على العكس، بدأتِ الولايات المُتَّحدة مرحلة تراجع في القوَّة والنُّفوذ وحتَّى التَّأثير في السِّياسة الدوليَّة. ليس القصد القوَّة بمعناها المادِّي المباشر، أي القوَّة الاقتصاديَّة والعسكريَّة الَّتي ما زالتْ تجعل مِنْها قطبًا عالَميًّا متفرِّدًا حتَّى رغم مظاهر الضّعف الَّتي تعتريها. ولعلَّ ما قد يَعدُّه البعض مظاهر استمرار هيمنة أميركا وتفردها بقيادة العالَم هي ذاتها مؤشِّرات على الضّعف والتَّراجع. فاللُّجوء إلى القوَّة المُسلَّحة الغاشمة، و»البلطجة» بانتهاك القوانين والأعراف الدوليَّة لا تُعَبِّر عن «عظمة» بقدر ما تُعَبِّر عن تراجع الثِّقة بالقدرات والعجز عن إدارة نظام عالَمي بعيدًا عن ثنائيَّة القطبيَّة الَّتي سادتْ فترة الحرب الباردة. على مدى العقود الأخيرة قادتْ أميركا حملات عسكريَّة وشِبه عسكريَّة، ومعها بريطانيا وبعض حلفائها الغربيِّين؛ لفرض ما تراه يخدم مصالحها. وفي كُلِّ تلك المحاولات تمَّ تجاوز القوانين والأعراف الَّتي تحكم العلاقات الدوليَّة، بل وانتهاكها الصَّريح أحيانًا. من دعم وتسليح ميليشيَّات متطرِّفة وتشجيع التشدُّد الأُصولي، سواء الدِّيني مثل حالة تنظيم القاعدة ثمَّ داعش أو شِبه العنصري مثل جماعات اليمين المتطرِّف في أوروبا، إلى الغزو والاحتلال المباشر كما في حالات أفغانستان والعراق. رغم الدَّمار والفشل الَّذي خلَّفته تلك التدخُّلات الأميركيَّة في القارَّات الثَّلاث، آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة، لم تسفرْ تلك المحاولات الَّتي وصفتْ في وقتٍ ما بالفَوضى الخلَّاقة عن بداية تَشكُّل نظام عالَمي جديد كما كان مستهدفًا. في مسارها هذا منذُ نهاية ثمانينيَّات القرن الماضي عملتِ الولايات المُتَّحدة على محاولة «تمييع» قاعدة سيادة الدوَل الوطنيَّة تحت مُسمَّيات مختلفة مثل «التدخُّل الاستباقي» وشيطنة دوَل بِعَيْنها بتلفيق الأكاذيب؛ كَيْ تثبتَ لِنَفْسها قَبل العالَم أنَّها «القوَّة العظمى الوحيدة» في عالَم وحيد القطب. بالنَّظر إلى تلك العقود الأخيرة يُمكِن استخلاص أنَّ تلك المحاولات لاستعراض القوَّة العسكريَّة واستخدامها غير القانوني في أغلب الأحيان لم يؤدِّ إلى «إعادة تشكيل العالَم» كما تريده أميركا والغرب. بل على العكس، كشفتْ تلك المحاولات الأميركيَّة العنيفة والمدمِّرة أحيانًا عن مدى عدم قدرة القوَّة العظمى على قيادة نظام دولي، قديم أو جديد، بقواعده السَّابقة أو تطوير قواعد جديدة. في الوقت نَفْسه كانتْ هناك قوى طرفيَّة تصعد على درج النِّظام العالَمي مثل الصِّين والهند وجنوب إفريقيا وغيرها، لكنَّ أيًّا مِنْها لم يملكِ القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة الَّتي تملكها الولايات المُتَّحدة. حتَّى محاولات روسيا استعادة بعض ملامح العالَم ثنائي القطبيَّة ليسَتْ إلَّا فشلًا أيضًا من مظاهره التَّفكير بعقليَّة الحرب الباردة وثنائيَّة القطبيَّة الَّتي انتهتْ. وإذا كانتِ الصين تطوِّر قدراتها العسكريَّة في محاولة للَّحاق بأميركا فإنَّ الفارق ما زال كبيرًا بَيْنَهما لصالح واشنطن طبعًا. أمَّا الوجه الآخر للقوَّة إلى الجانب العسكريَّة فهو الاقتصاد. ومع ما يُمكِن القول إنَّه شِبه استنفاد لفائدة «البلطجة» العسكريَّة بدأتِ «البلطجة» الاقتصاديَّة في محاولة خلق فوضى عالَميَّة جديدة لتقنعَ أميركا نَفْسها وحلفاءها قَبل بقيَّة العالَم أنَّ التَّاريخ ينتهي بقيادتها للعالَم كقطب وحيد. لذا، منذُ الفترة الثَّانية للرَّئيس جورج دبليو بوش وأميركا تعمل على «فك الارتباط» مع العالَم على الأقل عسكريًّا مع تشجيع حلفاء ووكلاء للعمل على تقوية مصالحها في تلك البؤر الَّتي وُجِدَتْ فيها عسكريًّا من قَبل بكثافة. ثمَّ جاء الرَّئيس دونالد ترامب في فترة رئاسته الثَّانية الحاليَّة ليسَتْخدمَ الوَجْه الآخر لعملة القوَّة الأميركيَّة بتهديد العالَم كُلِّه تقريبًا بأن «يدفعَ» لواشنطن أو يحرمَ من التَّعامل مع أكبر اقتصاد في العالَم. ذلك هو جوهر فرض الرُّسوم والتَّعريفة الجمركيَّة والتَّهديد بالعقوبات وغيرها. كما كان اللُّجوء للقوَّة العسكريَّة تعبيرًا عن عدم القدرة على إدارة الأمور سلميًّا فإنَّ اللُّجوء للقوَّة الاقتصاديَّة يعكس مخاوف التَّراجع. فالاقتصاد القوي بإدارة سليمة لا يخشى المنافسة بل يستفيد مِنْها. ولطالَما استفادتْ أميركا من العولمة الاقتصاديَّة رُبَّما أكثر من غيرها، وما انقلابها عَلَيْها الآن إلَّا مؤشِّر على أنَّها لم تَعُدْ قادرة على تحقيق مصالحها من خلالها. مرَّة أخرى، ستجد هناك مَن يحاجج بأنَّ القوَّة العسكريَّة والاقتصاديَّة هما جناحا التفرُّد كقوَّة عظمى ووسيلتا استمرار الهيمنة والقيادة العالَميَّة. لا جدال حَوْلَ ذلك بالطَّبع، لكن حين يكُونُ اللُّجوء إلى جناحَي القوَّة بغرض إشاعة الفوضى فهذا يعني ببساطة أنَّ القوَّة العظمى تخشى أن ينكشفَ تراجعها وبدلًا من تقوية وضعها وتحسين حالتها تقوم بإضعاف بقيَّة العالَم كَيْ تتمكنَ من السَّيطرة عَلَيْه. ومن الصَّعب القَبول بأنَّ تلك الوسيلة المُثلى لترسيخ نظام عالَمي جديد بقطب أميركي متفرِّد. لعلَّ ذلك يذكِّرنا بمثال إقليمي ليس ببعيد. فبعد الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة شاع اعتقاد قوي في المنطقة بأنَّ العراق خرج من الحرب بقدرات عسكريَّة جيِّدة، وأنَّ جيشه وتسليحه قد يجعله قوَّة منافسة لقوى تقليديَّة في المنطقة. فكانتْ قناعة تلك القوى الإقليميَّة أنَّه بما أنَّ قدراتنا تتراجع فلا بُدَّ من «تكسير» قدرة أيِّ منافس صاعد. وكان ذلك الأساس الَّذي عَلَيْه تحالفتْ قوى الإقليم مع المحور الأنجلوـ ساكسوني (المتعاون بشكلٍ مستتِر مع الصَّهاينة) لغزوِ واحتلال العراق وتدميره وإعادته إلى «العصر الحجري» كما تفاخر الأميركيون وقْتَها.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري

[email protected]