الأربعاء 25 يونيو 2025 م - 29 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: تعظيم القيمة المحلية مسار تنموي يمضي بخطى واثقة

الاثنين - 23 يونيو 2025 05:16 م

رأي الوطن

50

تمضي سلطنة عُمان بخُطًى واثقة نَحْوَ إعادة تعريف العلاقة مع مواردها الطَّبيعيَّة، ليس بصفتِها مجرَّد عناصر خام تُستخرج وتُصدَّر، وإنَّما كركائز لإقامة صناعات متقدِّمة تُحقِّق عوائد مُضافة، وتُسهم في بناء اقتصاد متوازن ومستدام.. هذه الرُّؤية تنطلق في الأساس مع الأهداف الاستراتيجيَّة لرؤية «عُمان 2040» الَّتي وضعتْ نصْبَ عَيْنَيْها تعظيم الاستفادة من المواد الأوَّليَّة تعظيمًا استراتيجيًّا، لا يخضع لتقلُّبات الأسواق العالَميَّة فقط، وينطلق من إرادة داخليَّة تسعَى لبناء نموذج إنتاجي متكامل. ولعلَّ تنامي المشروعات المرتبطة بالتَّصنيع المحلِّي، وتحويل الموارد إلى منتَجات ذات استخدامات متقدِّمة، يؤكِّد أنَّ الدَّولة لم تَعُدْ تكتفي بِدَوْر المورد التَّقليدي، لكن تسعَى إلى إعادة صياغة قواعد اللُّعبة الاقتصاديَّة، بما يُعزِّز أمْنَها الاقتصادي، ويُكرِّس مبدأ الاكتفاء المعرفي والتِّقني، ويمنح الصِّناعات الوطنيَّة مكانة أقوى في الأسواق الإقليميَّة والدوليَّة. وتأكيدًا على هذا التَّوَجُّه، تمَّ توقيع اتفاقيَّة بَيْنَ الشَّركة العُمانيَّة للغاز الطَّبيعي المسال وشركة (كاناديفيا) اليابانيَّة لإجراء دراسة تفصيليَّة لمصنعٍ تجريبي لإنتاج الميثان المستدام؛ تمهيدًا لإقامة منشأة تجاريَّة بطاقة إنتاجيَّة عالية، والمشروع يعكس تحوُّلًا جذريًّا في استثمار غاز ثاني أكسيد الكربون، وتوظيفه في إنتاج ميثان صناعي من خلال دمجه مع الهيدروجين المستخرج من تحليل مياه البحر، وهي عمليَّة معقَّدة تتضمَّن تحلية المياه، وتوليد الهيدروجين، ثمَّ دمج المُرَكَّبَيْنِ لإنتاج وقود نظيف. ففي هذه التَّجربة تتقاطع التكنولوجيا مع البيئة، لِتقدِّمَ عُمان نَفْسَها بوصفها دَولة منتِجة للحلول، لا دَولة متلقِّية للتقنيَّات، وهذا المشروع يُمثِّل بُعدًا أعمق من مجرَّد شراكة، فهو خطوة في معركة المستقبل، حيثُ الطَّاقة النَّظيفة ليسَتْ خيارًا بقدرِ ما هي ضرورة، والسَّلطنة تخوض هذا التَّحدِّي برؤية واضحة، وتعاون دولي محكوم بالمصالح المشتركة والاستثمار في العقول. ويتماشَى هذا التَّوَجُّه أيضًا مع توقيع وزارة الطَّاقة والمعادن اتفاقيَّة امتياز تعديني مع الشَّركة العالَميَّة المتكاملة للهندسة في منطقة الامتياز رقم «I-51» بمحافظة الوسطى، لإقامة مشروع ضخم لإنتاج الملح الطَّبيعي ومشتقَّاته، ويُقام المشروع على مساحة (15) كيلومترًا مربَّعًا، وبطاقة إنتاجيَّة سنويَّة تصلَ إلى مليون و(200) ألف طن، بقِيمة استثماريَّة تتجاوز (200) مليون ريال عُماني، هذه الخطوة تُعبِّر عن رغبة حقيقيَّة في إعادة توجيه الثَّروات الطَّبيعيَّة إلى مسارات أكثر حيويَّة، تُوَظَّف فيها عناصر الطَّبيعة من شمس ورياح ومياه بحر، وتتحوَّل إلى منتَجات تدخُل في الصِّناعات الدوائيَّة والغذائيَّة والأعلاف، وهي قِطاعات تشهد طلبًا متزايدًا عالَميًّا، والمشروع يفتح الباب أمام صناعات تحويليَّة متقدِّمة، ويُعزِّز من فرص التَّوظيف للكوادر العُمانيَّة، ويمنح المؤسَّسات الصَّغيرة والمُتَوَسِّطة دَوْرًا في منظومة الإنتاج، ما يعني أنَّ التَّنمية لم تَعُدْ حكرًا على رأس المال الكبير، بل تُعادُ صياغتها لِتكُونَ شاملة، متكاملة، وموزَّعة بعدالة على كُلِّ الشَّرائح الاقتصاديَّة. إنَّ الاستثمار الأمثل في المواد الخام لا يُقاس بعدد الاتفاقيَّات، لكن بمدَى قدرتها على إحداث أثَر طويل الأمد في البنية الاقتصاديَّة، وبما تمنحه من استقلال في القرار الإنتاجي. وقد أثبتتِ التَّجربة العُمانيَّة أنَّ تحويل الثَّروات إلى صناعات مستدامة هو المدخل الحقيقي لِتَحقيقِ أمْن اقتصادي شامل، حيثُ يتمُّ التَّحكُّم في سلسلة القِيمة من المصدر إلى المنتج النهائي.. فهذه الرُّؤية تتجاوز فكرة التَّصدير كمصير حتمي للموارد، إلى بناء منظومات إنتاجيَّة محليَّة تُصدر القِيَم قَبل المواد، ومتى ما أُحسن استثمار هذه الثَّروات في أُطر علميَّة واقتصاديَّة دقيقة، فإنَّ العائد لن يكُونَ اقتصاديًّا فقط، بل معرفيًّا وتنمويًّا، يُعزِّز مكانة السَّلطنة في أسواق الطَّاقة والصِّناعة، ويمنحها فرصة أنْ تكُونَ لاعبًا مؤثِّرًا لا تابعًا في اقتصاد المستقبل.