في زمن تتسارع فيه الإعلانات وتنتشر مقاطع التَّواصُل الاجتماعي انتشار النَّار في الهشيم، باتتْ كلمة البروتين تتصدر المشهد الغذائي وكأنَّها المفتاح السِّحري للصحَّة والقوَّة والشَّباب الدَّائم. نرَى بودرة البروتين تُباع في عدد من المتاجر، وبسكويتات وألواح وحتَّى مشروبات قهوة معزّزة به، والكُلُّ يلهثُ وراء الرَّقم المكتوب على العبوة: عشرون جرامًا أو ثلاثون جرامًا، فكُلَّما زادَ الرَّقم زادَ الإغراء. لكن وسط هذا الجنون، هل توقَّفنا لِنفكِّرَ: ما هو البروتين فعلًا؟ وما حدود الحاجة والحكمة مِنْه؟ وهل نحن حقًّا نَسير على درب الصحَّة؟ أم نسقط في فخِّ الوَهْمِ الغذائي الحديث؟! بطبيعة الحال، جنون البروتين ليس وليد اليوم. فمنذُ أن اكتشفَ العِلم دَوْره في بناء العضلات والأنزيمات والهرمونات، أُحيط به هالة من الأهميَّة. صحيح أنَّ البروتين بالفعل هو لبِنة الحياة الأُولى، ومكوِّن لا غنى عَنْه في أيِّ خليَّة من خلايا الجسم. بل ويحتاجه الطِّفل لِينموَ، والرِّياضي لِيقوَى، والمريض لِيتعافَى. لكن كما في كُلِّ شيء، ما زاد عن حدِّه انقلبَ إلى ضدِّه. وهنا تبدأ قصَّة جنون البروتين! ففي دراسة نشرتها مجلَّة التَّغذية الأميركيَّة عام ٢٠٢٤، أظهرتْ أنَّ استهلاك البروتين في الدوَل الصِّناعيَّة تجاوز احتياجات الجسم بنسبة تتراوح بَيْنَ خمسين إلى ثمانين بالمئة، وغالبًا من مصادر حيوانيَّة مشبَّعة بالدُّهون. هذه الكميَّات الزَّائدة لم تكُنْ بدافع الحاجة، بل نتيجة مباشرة للتَّسويق المكثَّف والوعي المشوّش لدَى المستهلِك. ووسط هذا المشهد المُربك، أروي لكم قصَّة أُمٍّ شابَّة جاءتني تحمل عبوة كبيرة من بودرة البروتين، قلقة على ابنها البالغ من العمر تسع سنوات. قالت لي: «ابني ضعيف البنية، والمدرسة نصحتني بإعطائه بروتينًا يوميًّا لِيزيدَ تركيزه وقوَّته». وبعد نقاش هادئ، أدركتِ الأُمُّ أنَّ الحلَّ ليس في المساحيق والمنتجات التِّجاريَّة، بل في تنويع غذاء ابنها وتشجيعه على الأطعمة الطَّبيعيَّة الغنيَّة بالبروتين، مثل البَيض، والعدس، والمكسَّرات، واللُّحوم القليلة الدُّهون. وبعد أشْهُر، علمتُ بأنَّ شهيَّة الطِّفل انفتحتْ وأصبح أكثر نشاطًا. هذه القصَّة تلخِّص ما نحتاجه من وعي لا انقياد أعمى خلف الموضة الغذائيَّة ـ إن صحَّ لي التَّعبير ـ. من ناحية أخرى، فإنَّ جنون البروتين لم يَعُدْ مقتصرًا على الرِّياضيِّين أو مَن يسعَون لبناء الأجسام، بل صارتْ ظاهرة عامَّة. وللأسف الدِّراسات الحديثة بدأتْ تكشفُ الوَجْه الآخر لهذا الهوس! ففي آخر دراسة طبيَّة أثبتتْ بأنَّ الإفراط المزمن في استهلاك البروتين الحيواني يرفع نوعًا من الأحماض فيؤثِّر على الكُلَى، ممَّا يزيد خطر الإصابة بأمراض الكُلَى لدَى ذوي القابليَّة الجينيَّة. ناهيك أنَّ هذا النَّمط الغذائي المفرط ـ إن كان ـ يؤثِّر سلبًا على ميكروبيوم الأمعاء، محدِثًا اختلالًا في توازن البكتيريا النَّافعة، ممَّا يرتبط بزيادة الالتهابات المُزمنة والسُّمنة وبعض أنواع السَّرطان. أمَّا على صعيد صحَّة القلب والشَّرايين، فقَدْ أكَّدتْ دراسة أخرى نُشرتْ في عام ٢٠٢٤ (بمجلَّة جمعيَّة القلب الأميركيَّة) أنَّ الاعتماد المُفرط على البروتين الحيواني يزيد من مخاطر أمراض القلب مقارنةً بالبروتين النَّباتي، والَّذي ارتبط بانخفاض هذه المخاطر عِندَ استهلاكه ضِمن نظام غذائي متوازن. وهذا حقيقةً يَقُودُنا إلى حقيقة علميَّة باتتْ واضحةً ويَجِبُ أن نعيَها دائمًا، ألَا وهي: إنَّه ليس المُهمِّ فقط كميَّة البروتين، بل مصدره وجودته وأثَره بعيد المدَى! وفي خضمِّ هذا كُلِّه، يبقَى السُّؤال الكبير: هل نحن بحاجة فعليَّة إلى هذا الكمِّ من البروتين المعزّز في كُلِّ وجبة وعبوة؟ أم أنَّنا ضحيَّة حملة تسويقيَّة ذكيَّة تستغلُّ قلقنا الصحِّي؟ إنَّ الإجابة ـ من وجهة نظري ـ تكمن في العودة إلى الاعتدال في كُلِّ شيء. لا البروتين ولا أيَّ عنصر غذائي آخر هو الحلُّ السِّحري لمُشْكلاتنا الصحيَّة. بل هو جزء من منظومة متكاملة تشمل غذاءً متوازنًا، ونشاطًا بدنيًّا، وصحَّة نَفْسيَّة سليمة. ختامًا، من الجيِّد أن نستمعَ إلى لُغة أجسادنا لا إلى ضجيج السُّوق، ولِنجعلَ من الاعتدال والوعي سلاحنا أمام جنون الغذاء الحديث. فالحكمة ليسَتْ في ملاحقة كُلِّ جديد، بل في فَهْم القديم والجديد بِعَيْنِ النَّاقد العارف. وحين نُعِيد للبروتين مكانتْه الحقيقيَّة ضِمن نظام متوازن، سنكُونُ قد وضعنا قَدَمنا على الطَّريق الصَّحيح لصحَّة مستدامة وسليمة ـ بإذن الله ـ.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي