فتَح الخلاف بَيْنَ الحكومة المركزيَّة وإقليم كردستان الَّذي اتَّخذ من أزمة الرواتب غطاء له، إلَّا أنَّه في حقيقة الأمْر أعمق في اتِّجاهاته وضع الطَّرفيْنِ أمام طريق ومشهد جديد في مسار العلاقة بَيْنَ المركز والمحافظات، وهي علاقة مختلَّة وغير مستقرَّة، وخاضعة لنيَّات واستحقاقات الطرفيْنِ؛ إذ لم يتحقق التَّوازن في مسارها. فالطَّرف الأوَّل يسعَى لتكريس هيمنته على القرار المركزي وسُلطته على الأطراف، فيما يسعَى الطَّرف الثَّاني إلى تقليل هيمنة المركز وقيوده قدر المستطاع لتفادي البقاء تحت مظلَّة الدَّولة المركزيَّة. إنَّ تجربة السَّنوات الَّتي أعقبتْ غزو العراق تُشير إلى أنَّ علاقة المركز بالأطراف انتابها نَوع من الغموض والتَّوَتُّر إلى حدِّ الالتباس، لا سِيَّما دعوات الاستقلال المتنامية الَّتي تأخذ طابع الإقليم والفدراليَّة. وما يتمتع به إقليم كردستان من استقلاليَّة شِبه كاملة عن المركز يفتح شهيَّة الآخرين على المطالبة بتشكيل الأقاليم أو الفدراليَّة كنَوعٍ من أنواع الاستقلال عن السُّلطة المركزيَّة. وما يُشجِّع هذه النَّزعة هو الدّستور العراقي الَّذي أباح لجميع محافظات العراق تشكيل هذه الكيانات في إطار ما يُسمَّى بالعراق الاتِّحادي. وفاتَ على المطالِبِينَ بإقامة الفدراليَّات والأقاليم أنَّ العراق وبفعل تكويناته لا يصمد موَحَّدًا إذا تشظَّى إلى أقاليم وفدراليَّات؛ لأنَّ قدر العراق على مرِّ العصور أن يكُونَ موَحَّدًا رغم ما تعرَّض له من غزوات واحتلالات على مدَى التَّاريخ، لكن سرعان ما يَعُود موَحَّدًا وينهض من جديد. هذه الحقيقة ينبغي أن يدركَ أبعادها على الكيان العراقي الَّتي تَقُودنا إلى الحديث عن مخاطر هذه الدَّعوات لإنشاء الأقاليم والفدراليَّات؛ لأنَّها وطبقًا لِمَا نشهده من توَتُّر ونزاعات، لا سِيَّما بَيْنَ حكومة بغداد وإقليم كردستان، وأيضًا تنامي الخلافات بَيْنَ أطراف العمليَّة السِّياسيَّة تعكس حالة الاحتقان السِّياسي كتعبير عن عدم تلبيَّة حاجات ومشاغل المحافظات الَّتي تعاني من إهمال المركز في تنفيذ حاجات وتطلُّعات سكَّانها وتكريس ثرواتها لسعادة أبنائها. ورغم تسكين الخلاف بَيْنَ بغداد وأربيل فإنَّ إقليم كردستان واستنادًا إلى المشهد السِّياسي يسعَى إلى حصَّة وازنة في القرار السِّياسي مع بغداد، في حين أنَّ السُّلطة المركزيَّة تنظر بريبة إلى هذا المنحَى الَّذي سيؤدي إلى تراجع إن لم نقُلْ إلى تلاشي دَوْر المركز في إدارة شؤون البلاد. وطبقًا لهذا التَّداخل في الصلاحيَّات بَيْنَ المركز والأطراف فإنَّ العراق الموَحَّد سيبقى هو الضَّمانة والخَيمة لكُلِّ العراقيِّين وتطلُّعاتهم في وطن آمِن ومستقِر يشارك الجميع في صُنع قراره السِّياسي دُونَ التَّجاوز على حقوق الآخرين. وهذا الخيار يبقى هو الضَّمانة لكُلِّ الأطراف الَّتي تتطلع إلى رؤية العراق موَحَّدًا وملبيًا للحاجات المشروعة لأبنائه، ومن دُونِ ذلك ستبقَى عواصف الخلافات تهيمن على المشهد السِّياسي وصولًا لِتَسكينِها إذا توافرتِ الإرادة السِّياسيَّة الَّتي تأخذ بنظر الاعتبار تفكيك الأزمات، ووضع الحلول المناسبة للخلافات بَيْنَ المركز والأطراف.
أحمد صبري
كاتب عراقي