في مسارات الروح، لا تشكل الجغرافيا حدودًا، بل جسور عبور. من جبال ظفار العابقة برائحة اللبان، إلى صخور معلولا الناطقة بلغة المسيح، سافرتُ لا بجسدي فقط، بل بوجداني الباحث عن جذور الروح والكلمة. كنت أظنّ أن الرحلة بدأت من حُب استطلاعٍ لُغويّ، أبحث فيه عن صلات خفية بين اللُّغة الظفارية الجنوبية (الشحرية) وبين اللُّغة الآرامية، لُغة الأنبياء والقديسين. لكن ما إن وطأت قدماي أرض معلولا، حتى شعرتُ أن الزمن قد انشقَّ كما الصخرة التي نجَّت القديسة تقلا، فانفتح لي دربٌ نحو دهشة لا تشبه دهشات الدنيا. شددنا الرحال من دمشق، أنا وعدد من الزملاء، مدفوعين بشغف البحث وشوق الاكتشاف، نحو تلك البلدة التي تقف على كتف الجبل كأنها تتهجّى دعاءها بالحجارة. معلولا… حيث يتكلّم السكان اللغة الآرامية في تفاصيل يومهم، ويؤدّون بها صلواتهم وتراتيلهم، بإيقاعٍ يشبه ارتجاف الروح بين يدي الله. ما إن دخلنا البلدة حتى اجتذبتنا مغاراتها وكهوفها، محاطة بأعشاب تنمو من رحم الصخر، وماء بارد يتدفّق من نبع صغير كأنه يروي الظمأ الأبدي فينا. وهناك شجرة عجيبة تنحني كأنها تسجد، تزيد المكان خشوعًا وتوقيرًا، وكأن الأرض كلَّها تستعد لصلاة سرِّية. وقفنا أمام دير القديسة تقلا، ذاك الدير العتيق الذي يرجع إلى أكثر من ١٥٠٠ سنة، حيث احتضنته الصخرة التي انشقَّت استجابة لدعاء فتاة مؤمنة، فرت من مطاردة الجنود بعد إيمانها برسالة بولس. لم تكن تلك الصخرة مجرد معجزة نجاة، بل كانت رمزًا دائمًا لعبور الروح من الخوف إلى الأمان، من المطاردة إلى الحضن الإلهي. استقبلتنا راهبة وقورة، بصوت خافت لكنه عميق، بدأت تهمس لنا بصلاة باللُّغة الآرامية، فغمرنا صمت مقدس. قالت: «قديشا الوهو، قديشا حايلوثا، قديشا لو ميتا، اترحم علينا.» (قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، ارحمنا). كان لصوتها صدى يخترق الحجر والجلد، واستدعت الصلاة في ذهني صدى اللُّغة الشحرية، التي لا تزال تحيا في ظفار، وفيها كلمات تشبه تلك التي سمعناها: «أبّا» للأب، «أرحموا» للسماء، وأسلوب النغم والوقفات يذكّر بنبرة الدعاء والنداء في لهجاتنا الجبلية القديمة. في معلولا، الصوت قديمٌ كأنبياء التوراة، والماء جديدٌ كالغفران، والصلاة لا تحتاج ترجمة. خرجنا منها ونحن نحمل لُغتين، ولكن بقلبٍ واحد، نابض بالنور.
أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية