حين أتت سميحة أيوب لمهرجان المسرح في سلطنة عُمان عام 2004، صارحتني لأول مرة عن قلقها، فيما يتعلق بشأن نجلها محمود من زوجها الفنان محسن سرحان. كان محمود يعيش بالولايات المتحدة حينئذ. وأوضحت لي أن كل سُبل التواصل معه انقطعت منذ فترة طويلة، وأن محاولاتها المتكررة للاطمئنان عليه باتت جميعها بالفشل، وان كل ما تريد معرفته هو إذا ما كان ابنها محمود على قيد الحياة أم لا؟ سألتها: هل حاولت معرفة الأمر عبر الطرق الرسمية أو التواصل مع كبار المسؤولين في مصر؟، فردت: (انت أكيد بتهزري، ده ابني يا آسية. أنا لو عملت إللي إنت عيزاه حتبقى ضجة وأنا مش ناقصة). لن أنسى نبرة صوتها بكل ما فيها من قلق الأم على وليدها والبحث عن بصيص أمل يوصلها إليه، حين قالت لي: (مش بيقولوا إن في عندكم بلد كاملة فيها ناس بتفهم في الحاجات دي؟). قاطعتها بقولي: بلا بلد كاملة بلا بلد ناقصة. الوحيد في (سلطنة عُمان) الذي باستطاعته أن يطمئنك على ابنك والإجابة على سؤالك هو الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي. سأتصل به ونذهب إليه. لم أدخل في أية تفاصيل مع سميحة عن مَنْ يكون الشيخ مهنا، ولم تسألني هي أي شيء عنه، سوى أنها قالت لي: (انجديني بيه، أعملي معروف). بعد يومين، أقلتنا السيارة في الصباح الباكر إلى ولاية العوابي التي تبعد عن ولاية مسقط بحوالي 123 كيلو مترا. حين وصول السيارة إلى منزل الشيخ مهنا، حيث النخيل والزرع، علقت سميحة مبتسمة: (إيه المكان الحلو ده؟ هو إحنا جايين هنا نستجم ولا إيه؟). أدخلنا الذي استقبلنا داخل غرفة كبيرة هي مكتبة الشيخ مهنا والتي بها مكتبه. لم يكن الشيخ مهنا حين وصولنا جالسًا على مكتبه. نظرت سميحة إلى المكتبة الكبيرة حولنا، ثم علقت بنبرة جادة: (إيه ده يا آسية؟ أنت ركبتيني العربية ساعة ونص؟ وفي النهاية جيباني في مكتبة سلطنة عُمان العامة، وتقولي لي حنعرف إذا كان ابني عايش ولا لأ؟ هو إحنا جايين هنا نعمل بحث؟ هي الكتب والأبحاث لحست مخك ولا أيه ؟ اللهم طولك يا روح). قاطعتها بقولي: اصبري يا سميحة، أنا أعرف جيدًا ما الذي أفعله. الشيخ مهنا رجل معروف ومثقف جدًا، ويمت إلى بصلة قرابة قبلية. علاوة على أنه فقيه في الدين، وفي اللغة، وعلم المخطوطات والوثائق. ويتعامل مع مختلف الجهات الرسمية في البلد، بدءًا بديوان البلاط السلطاني، مرورًا بجهات أخرى كثيرة، بما فيها وزارة التراث والثقافة القائمة على مهرجان المسرح. وأولاد الشيخ مهنا يعملون في الحكومة ، وفوق هذا وذاك الشيخ مهنا عالم في علم الفلك وله مُؤلَفات فيها، وسيد من يفهم فيها، يعني هو الوحيد الذي سيجيب على سؤالك، وأنت شخصية عامة ومعروفة، وهو يعرفك. والشيخ مهنا له مكانة أدبية واجتماعية كبيرة في البلد، يعني لن يكون هناك أي مجال للمجازفة ولا المجاملة ولا الخطأ. وأنا أعطيت الشيخ مهنا فكرة عن الموضوع حين هاتفته، وشرحت له ما تريدينه منه بالضبط؟ وبناءً عليه أعطاني الموعد. فتنهدت سميحة، ثم قالت: (يا رب يا آسية، ما يكُنش بعد المشوار ده كله، الموضوع ينتهي على إني حقابل شخصية عُمانية مهمة وبس). سألها الشيخ مهنا مجموعة من الأسئلة، والتي كان من أهمها لحظة ميلاد محمود بالضبط، مؤكدًا عليها بأنه لا يريد هذه اللحظة بالتقريب. وكنت لأول مرة أقف على اسم سميحة الحقيقي، هو سميرة وليس سميحة. بعد أن أنهى الشيخ مهنا حساباته الدقيقة، التي استغرقت أكثر من نصف ساعة ونحن ننتظر، طمأنها على ابنها محمود وأكد لها أنه حي يرزق على قيد الحياة. حين سألته سميحة: (حضرتك متأكد؟) أجاب الشيخ مهنا بكل ثقة: (هو أنت يا أستاذة، بعد خبرة السنين هذه في المسرح، ممكن أن تخطئي على المسرح؟ أكيد لأ، فأنا أقول لك مستحيل أخطأ في مثل هذه الأمور. لذا، يقينًا، ابنك على قيد الحياة، لأن نجمه بكل الحسابات المختلفة التي حسبتها ظاهر معي، ولو كان على غير ذلك، لم يكن لنجمه أن يظهر لي. اطمئني تمامًا). طالت الجلسة مع الشيخ مهنا بعد ذلك، وتشعب الحديث نحو موضوعات مختلفة، بما فيها المسرح وتاريخه واتجاهاته. غادرنا منزل الشيخ مهنا على وشك الظهيرة، وكان تعليق سميحة عليه: (الرجل فعلاً موسوعة متحركة).
د. آسية البوعلي
كاتبة عمانية
