قيل: ما يؤلم الشَّجرة ليس الفأس، ما يؤلمها حقَّا هو أنَّ عصا الفأس من خشبها! شاهدتُ مقطعًا مرئيًّا في إحدى وسائل التَّواصُل الاجتماعي عن ظاهرة التَّنَمُّر الوظيفي النَّاعم، ورغم معرفتي السَّابقة ببعض أوجهها وتأثيراتها، إلَّا أنَّه حفَّزني لأكتبَ لِمَا أثاره فيني من تساؤلات ودهشة، ما دفعني لإعادة التَّفكير والبحث والتَّقصِّي حَوْلَ ما يُخفيه هذا السُّلوك من أذًى مُستتر، لا تُدرك حدَّته إلَّا عِندَما يبدأ أثَره بالتَّسرُّب في النُّفوس والمؤسَّسات على حدٍّ سواء. اعتدنا في حياتنا اليوميَّة أن نربطَ التَّنَمُّر بالفظاظة والمواجهة المباشرة والصَّريحة، بَيْنَما يأتي «التَّنَمُّر النَّاعم» عكس ذلك تمامًا؛ فبدلًا من الوضوح، يُلمِّح ويتسرَّب بسمومه المخفيَّة إلى دماء الموظَّف ويُصيب كرامته في مقتل، وما يجعله مؤلمًا جدًّا هو أنَّه غير متعارض مع القوانين الرسميَّة لأيِّ مؤسَّسة، إنَّما يتعارض مع قِيَم العدالة والاحترام. وبطبيعته، يأخذ هذا النَّوع من التَّنَمُّر أشكالًا مختلفة، وتختلف الأمثلة، فمن أساليبه: إقصاء الموظَّف من الاجتماعات دُونَ أن يُقالَ له ذلك صراحة. أو أن تُسحبَ مِنْه مهام كانتْ في صميم اختصاصه؛ بذريعة «إعادة توزيع الأدوار» وقد يُساء فَهْم أفكاره عمدًا، أو تُقابل مساهماته بالصَّمت المتعمد. قد يُشكر ويُمدح علنًا، لكن يُحرَم لاحقًا من أبسط فرص التَّقدُّم المِهني بحجج واهية مِثل (سمعنا عن فلان)... أو أن يُبالغَ في خطأ وقعَ فيه لِيكُونَ بمثابة وصمة عار تُلاحقه بَيْنَ زوايا المؤسَّسة، ومن أنواعه المؤلمة تعمُّد استغلال رغبة الموظَّف في العمل الجادِّ، مثلًا أن يَقُومَ المدير بتكليف الموظَّف «الغلبان» بأعمال ((يُمكِن تأجيلها)) في آخر دقيقة من آخر يوم من الأسبوع الشَّاق.. أو أن يُجبرَه على ممارسة الأعمال في إجازته أو وقت فراغه بحجج (الإدارة العُليا ترغب في الحصول على النَّتائج في أقرب وقت)!! تُشير الدِّراسات إلى أنَّ الموظَّفين الَّذين يتعرضون للتَّنمُّر غير المباشر يعانون من مستويات مرتفعة من القلق والإجهاد والضَّغط النَّفْسي، وتزداد احتماليَّة إصابتهم بفرص الاحتراق الوظيفي... وهو أكثر شيوعًا في البيئات الَّتي تَسُودها ثقافة «الصَّمت الإداري»، حيثُ تُفضِّل المؤسَّسات تجاهل النِّزاعات على مواجهتها، وتأثيراته تمتدُّ لِيأخذَها الموظَّف إلى منزله وأُسرته ومسلكيَّاته الاجتماعيَّة، وقِس وقدِّر عن التَّداعيات الَّتي تحدُث جرَّاء ذلك. في مِثل هذه الحالات، لا يُطلب من الموظَّف أن يغادرَ، بل يُدفَع دفعًا نفسيًّا إلى ذلك، وتكمن المُشْكلة في أنَّ العديد من المؤسَّسات تفتقر إلى سياسات واضحة تُعنى بمثل هذا النَّوع من الإقصاء المقنَّع، بل وتَعدُّه أحيانًا «حُريَّة إداريَّة» أو «اختيارات قياديَّة»، لكنَّ ـ وللأسف ـ السُّكوت عن التَّنَمُّر النَّاعم هو بمثابة موافقة غير مُعلَنة على هدم رأس المال البَشَري! فالمؤسَّسات الَّتي تتغاضى عن هذه السُّلوكيَّات، ولو عن غير قصد، تُرسل رسائل سلبيَّة لموظَّفيها: الولاء لا يُكافأ، والمبادرة تُقابل بالرِّيبة، والاختلاف يُفسر تهديدًا. ما نحتاجه اليوم ليس فقط مراجعة القوانين الداخليَّة، بل أيضًا بناء ثقافة مؤسَّسيَّة واعية، تُربِّي مديريها على الحسِّ الإنساني، والقيادة العادلة، وتفتح الباب أمام الموظَّفين للحديث دُونَ خوف أو خجل. لا نريد فقط بيئات خالية من التَّنَمُّر الصَّريح، بل من التَّنَمُّر المؤسَّس الَّذي يلبس لباس الصَّديق والمُحب والرَّاغب في الدَّفع بإيجابيَّة، ويتحدَّث بلُغة المجاملة، ويطعن دُونَ أن يُمسكَ بسكِّين وبذات السِّلاح. في بعض البيئات، لا يُطرد الإنسان من الباب، بل يُطفأ نوره تدريجيًّا حتَّى يرحلَ وَحْدَه. وهنا تنهار الفرص، وتنكمش الكفاءات، وتخسر المؤسَّسات ما لا يعوِّضه إعلان وظيفة جديدة.
المنتصر بن زهران الرقيشي
كاتب عُماني
ـ الاتصالات الدولية والعلوم السياسية مدرب متعاون في تنمية مهارات المدربين «TOT» @mumtaserzr