في حياة الموظَّف اليوميَّة العديد من الفرص والمعزِّزات، والتحدِّيات والمهدِّدات، والمحفِّزات والمنغِّصات، ويبقى ما يمتلكه من مساحة التَّفاؤل والإيجابيَّة في التَّعاطي معها، مدخله في إدارتها لصالح تحقيق منتج وظيفي قادر على التكيُّف مع كُلِّ المعطيات، فقد يواجِه الموظَّف في حياته المهنيَّة الكثير من حواجز الصدِّ والمواقف والتَّقاطعات السلبيَّة من زملائه في المهنة أو غيرهم في محيطه الاجتماعي والشَّخصي ممَّن يحملون الأفكار السلبيَّة حَوْلَ الحياة والعطاء والتَّقدير والحوافز والإنتاجيَّة، وفي الوقت نَفْسه تُشكِّل مسألة فراغ الضَّوابط المُعزِّزة للحوافز والمؤصِّلة للشَّغف والإنجاز والمحافظة على درجة الاستحقاق المهني عالية في سبيل الدخول في معمعة العطاء والتَّعاطي معها بكُلِّ ثقة واقتدار أحد الحواجز والمشوهات في حياة الموظَّف، لكونِ هذا الفراغ إن لم يجد مِنْه الإرادة والعزيمة أن يثنيَه عن واصراره وانطلاقته واجتهاده، وتقيس إخلاصه والتزامه بمقاييس ماديَّة وبحجم الحوافز المقدَّمة له أو الترقيات الَّتي يستحقها، وتقلِّل من مستوى الجهد الَّذي يبذله عَبْرَ مقارنته بأشخاص آخرين تحققت لهم الفرص من غير امتلاكهم لهذه الخصال والمكاسب، فلم يكُنْ مِنْهم التزام يُعرف، أو إنتاج يُذكر، أو إخلاص يُشار إِلَيْه بالبنان، أو عمل مُتقن أثبتته الشَّواهد والمواقف، لتبدأ هذه الأفكار مع كثرة ترديدها أو التَّأمل فيها تؤثِّر في العقل اللاواعي لدَيْه، وتبث في مدركاته النفسيَّة والحسيَّة هاجس الأنانيَّة وخفض درجة القلق على المسؤوليَّة والحماس في الإنتاجيَّة، وتراجع اهتماماته وحُبه لهذا العطاء، وبالتَّالي فإن التَّعاطي مع مثل هذه المحبطات والمشوّهات، وما أكثرها اليوم في واقعنا المهني في القِطاعين الحكومي والخاصِّ على حدٍّ سواء، يستدعي امتلاك الموظَّف نَفْسه للحسِّ المهني والرُّوح الإيجابيَّة الذاتيَّة واستدامة هذا السُّلوك بحيثُ يكُونُ قرارًا داخليًّا نابعًا من ذاته، وقِيمة حياتيَّة يلتزمها كمبدأ ومسار ومِنْهج لا تتغيَّر بتغيُّر الزَّمان والمكان والأشخاص، مستشعرًا لها في قناعاته ومبادئه وإيمانه، مستنيرًا بها، مستنطقًا للقِيَم والأخلاقيَّات الَّتي ترفع من تميُّزه وتفرُّده غير المحدود، في كُلِّ ممارساته المهنيَّة حتَّى وإن لم يكُنْ لها ذلك المردود المادِّي على مستوى الحوافز المقدِّمة أو الترقيات، بل هي إسعاد الذَّات، والشُّعور بقِيمة التَّفاصيل الجميلة في حياته المهنيَّة، وتقويَّة الممكنات، وضمان امتلاك حسِّ الإيجابيَّة في مواجهة سَيل المنغِّصات والأفكار والأوهام الَّتي باتتْ تتَّجه لخلق حالة الارتباك في حياة الموظَّف؛ باعتباره الرَّصيد الَّذي يستطيع من خلاله أن يبنيَ أعمدة العطاء، ويحدد بوصلة التَّوَجُّه ويرسم خُطى المستقبل، وفي الوقت نَفْسه يتكشَّف له الكثير من الأوهام والأفكار غير الواقعيَّة الَّتي باتتْ تطرح عَلَيْه وغيره من المخلِصين المجتهدِين، وتتضح له العديد من الفرص الَّتي يشاء الله ـ عزَّ وجلَّ أن ييسرَها له في الوقت الَّذي يكُونُ في أشدِّ الحاجة إِلَيْها. وعَلَيْه، كان حضور الإيجابيَّة في فكر الموظَّف وسُلوكه المهني وطريقة تعامله مع المهام الوظيفيَّة، وعمليَّات التَّطوير الحاصلة فيها، وقناعاته حَوْلَ الوظيفة وخطط المؤسَّسة، ووقوفه مع أولويَّات العمل، وحرصه على التزام الشفافيَّة في الإنجاز، والمهنيَّة في معايير الأداء، والأخلاق والقِيَم كموجّهات أساسيَّة تترجم سُلوكه المهني، وتؤصِّل مواقفه وتصوُّراته حَوْلَ الكثير من القضايا اليوميَّة، ووجهات النَّظر المتباينة أحيانًا، الَّتي تبني على المشترك المؤسَّسي مساحات التقاء، ونماذج تتناغم من أجْلِها خطوط الإنتاج بالمؤسَّسة، وفرص لتوليد بدائل ومساحات أكبر من الحُريَّة الوظيفيَّة، بحيثُ تصبح تلك المواقف محطَّات استراحة لتجديد الفكر، وإعادة الإلهام إلى الأفكار، وانطلاقة قويَّة نَحْوَ تحقيق الرِّضا الوظيفي والاستقرار النَّفْسي في سُلوك الموظَّف، والمتعاملين معه، بل سيضمن نقل هذا التَّحوُّل في سُلوكهم وممارساتهم، لِمَا تضفيه من ذوق التَّعامل، وأدب الحوار، وثقافة العمل الرَّاقي، وأسلوب الاتِّزان الانفعالي في مواجهة الضُّغوطات أو في التَّعامل مع الصَّدمات، والتَّعامل بمهنيَّة مع خطط التَّنفيذ والاجراءات الإداريَّة الأخرى، كمسألة الحضور المبكر واستخدام أنماط وأساليب العمل عن بُعد والعمل المَرِن، والالتزام بقواعد وأساسيَّات المعايشة اليوميَّة مع زملاء المهنة، وتقدير الفكر الاستراتيجي النَّوعي في المؤسَّسة، وثقافة الاحترام لكُلِّ وجهات النَّظر المختلفة، ومنع القضايا الشَّخصيَّة من التَّأثير على مهامه الوظيفيَّة، والإيمان بمبدأ الفريق الواحد، والتزام أخلاقيَّات الوظيفة، والحضور الفكري والمهني الفاعل في الاجتماعات واللقاءات الَّتي تطلب من موقعه الوظيفي، والطَّاقة الإيجابيَّة الَّتي تدفعه وغيره نَحْوَ تطبيق الأنظمة، وتأكيد مبدأ الإنتاجيَّة في العمل، وسُلوك مبدأ التَّواصُل المهني الفعَّال؛ إذ تصنع هذه المواقف سُلوك الإيجابيَّة، وتنزل به إلى واقع الممارسة الفعليَّة، وتقرأه في سُلوك الموظَّف، وتعاملاته وتعهداته، وأخلاقه وقِيَمه، وانتمائه لمؤسَّسته. إنَّ الإيجابيَّة بذلك، مرحلة التَّوازن في سُلوك الموظَّف، عَبْرَ تجديد مساحات التَّواصُل البنَّاء، والقناعة بقِيمة العمل الجادِّ، وتعميق مفهوم أعمق للعلاقات الإنسانيَّة، السَّاعية لبناء مسارات الموضوعيَّة والمصداقيَّة في العمل، الباعثة على العطاء بِدُونِ انتظار لكلمات الشُّكر والتَّقدير، المتجاوزة حدود الروتين؛ إلى تكوين مسارات مهنيَّة متقدِّمة، بالشَّكل الَّذي ينقلها، إلى مستوى التَّأثير الفعلي في واقعه الوظيفي، وتغيير عاداته اليوميَّة نَحْوَ الأفضل، وبناء محطَّات التقاء أكثر في سبيل ضمان سَير العمل وفْقَ خطط واضحة، وآليَّات مقنَّنة، ومساحات أكبر من توظيف الصلاحيَّات، وتمكين الذَّات من نقلِ صورة العمل المؤسَّسي، في الممارسة وسُلوك الزُّملاء وفريق العمل، قَبل التَّصريحات الإعلاميَّة، وتحويل الطَّاقات والأفكار الإيجابيَّة لدَى الفرد إلى ممارسات تَقُوم على تعزيز المبادرات والتَّوَجُّهات التَّطويريَّة والابتكار، بشكلٍ تستجيب فيه لطموحات الموظَّف. بالتَّالي فإنَّ الإبقاء على مساحات الإيجابيَّة قائمة في سُلوك الموظَّف بمستوى القوَّة والثِّقة والتَّمكين ـ على الرّغم من تزايد المؤثِّرات الضَّاغطة، والممارسات الَّتي تتجافى مع استمراريَّة هذا النَّهج ـ يضعنا أمام تحوُّل قادم ينبغي أن تعزِّزَه منظومة العمل للجهاز الإداري للدَّولة في الوظيفة العامَّة، عَبْرَ البحث عن مأسسة هذا السُّلوك في بيئة العمل وتوفير القوى البَشَريَّة المحفظة والدَّاعمة للموظَّف في بناء الذَّات وتوليد الأفكار الإيجابيَّة وإدارتها والتَّثمير فيها عَبْرَ المساحة المهنيَّة المتاحة للموظَّف في التَّعبير عَنْها بالكيفيَّة الَّتي يريدها، وهو أمْر يطرح على منظومة قياس الأداء اليوم توجيه الأنظار إلى القِيَم الأخرى خارج الصُّندوق الوظيفي من غير المهام والاختصاصات والَّتي يمنح وجودها الموظَّف شعورًا بالإيجابيَّة والحسِّ الوظيفي واستدامة حُب العطاء لدَيْه، والخيوط التفاؤليَّة الَّتي تبقي وجوده بالمؤسَّسة حافظة له رغم حجم الإحباطات الَّتي أفصحتْ عَنْها منظومة القياس الفردي «إجادة» وحالة الاختلالات الَّتي باتتْ تسقطها في بيئات العمل ما يؤكِّد على أهميَّة إعادة تصحيح مسارها وضبط فراغاتها وإيجاد حزمة من الإجراءات التَّطويريَّة، والتَّشريعات المهنيَّة، الدَّاعمة لبناء سُلوك إيجابي رشيد، وبيئات مهنيَّة تمتلك فرص أكبر للاحتواء والتَّأثير، تُسهم في تحقيق أريحيَّة مهنيَّة ومرونة في الدَّوائر الوظيفيَّة. من هنا تأتي وجوبيَّة تبنِّي سياسات وآليَّة عمل واضحة، تعزِّز مساحة الإيجابيَّة والتَّفاؤليَّة لدَى الموظَّف في مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة، بحيثُ ترصد تفاصيلها في السُّلوك المهني، واستدامتها في أداء الموظَّف، واستمراريَّتها في قناعاته، لا تتغيَّر بمزاجيَّة الممارسات الفرديَّة الحاصلة في المؤسَّسة، ولا تخضع لمقاييس الرِّبح والخسارة، أو مجانبة السُّلوك الإداري النَّاتج عن مقاصد العمل الرَّشيد، وفْقَ مدخلات وأدوات ونماذج تقييم تتَّجه لصالح الإنتاجيَّة، عَبْرَ إيجاد بيئة وظيفيَّة داعمة، وسُلوك إداري متَّزن، وأسلوب ابتكاري منافس في العمل، يَضْمن بقاء مساحات التَّواصُل والعلاقات الإنسانيَّة الرَّاقية في المؤسَّسة ودعمها، إذ من شأن ذلك ضمان وجود مرجعيَّة مؤسَّسيَّة لتوفير البدائل والخطط والبرامج التَّدريبيَّة والتَّرفيهيَّة والمهنيَّة والأنشطة التَّواصُليَّة والحوافز تصنع الفارق وتقدِّم الخيارات الواسعة والتَّنافسيَّة للموظَّف، بشكلٍ يقلِّل من حالات السلبيَّة والامتعاض والشُّعور بالإجحاف، الَّتي باتَ يعيشها المسار الوظيفي في المؤسَّسات، في ظلِّ غياب مفاهيم الاحتواء وإدارة المشاعر ورفع درجة الممكنات النَّفْسيَّة والأدائيَّة في حياة الموظَّف، فهل ستضمن المراجعات في قانون الوظيفة العامَّة، والإصلاحات الَّتي يَجِبُ أن تطولَ «إجادة» في إيلاء استدامة مفهوم إيجابيَّة الموظَّف أهميَّتها في قواعد العمل والنُّصوص القانونيَّة؟
د.رجب بن علي العويسي