قد يبدو هذا الحديث بعيدًا عمَّا يجري في المنطقة وسخونة أجوائها على كُلِّ الأصعدة، لكنَّه ـ في تصوُّري ـ ليس ببعيد. فبِغَضِّ النَّظر عمَّا ستؤول إِلَيْه الأوضاع الحاليَّة، هناك درس مُهمٌّ يَجِبُ أن لا يفوتَنا وهو الصُّمود الإيراني في وَجْه أكثر من أربعة عقود من الحصار والعقوبات.. ما كان لهذا الشَّعب الَّذي ترفده حضارة عميقة أن يفعلَ ذلك إلَّا بتطوير القدرات الذَّاتيَّة. ففي إيران ستجد كُلَّ ما يلزم البَشَر في حياتهم «صناعة إيرانيَّة»، وكُلَّ ما يُقِيم أوَدَ الإنسان من إنتاج تلك الأرض الَّتي يعيشون عَلَيْها. وهذا ما يذكِّرنا بالفرصة الَّتي توافرت خلال أزمة وباء كورونا قَبل خمس سنوات والَّتي شلَّتِ العالَم كُلَّه. فرغم التَّبعات السلبيَّة الهائلة لتوقفِ النَّشاط والعَزْل وإغلاق الاقتصاد، كانتْ هناك فرصة لاستفادة النَّاس الَّتي اضطرتْ للعمل من البيت والتزام مواضعها أن تمارسَ نشاطًا بسيطًا لكنَّه في غاية الأهميَّة. أتذكَّر وقْتَها أنِّي كتبتُ في هذه الزَّاوية عن أهميَّة استغلال الوقت في الزِّراعة، نعم الزِّراعة. زراعة أيِّ شيء في أيِّ مساحة. فحتَّى إذا لم تكُنْ لدَيْك مساحة من الأرض ولو صغيرة حَوْلَ بيتك، فيُمكِنك الزِّراعة فوق السَّطح أو في الشُّرفات. قَبل عَقدَيْنِ أو ثلاثة تبنَّى صديق كان في منصب مرموق بمنظَّمة الأغذية والزِّراعة التَّابعة للأُمم المُتَّحدة (الفاو) مشروعًا لزراعة أسطح البيوت في مصر كحلٍّ جزئي لأزمة توافر الغذاء مع تآكل الرُّقعة الزِّراعيَّة. ومع تطوُّر سُبل الزِّراعة والرَّيِّ غير كثيف الحاجة للمياه كان ذلك حلًّا لجزء من مُشْكلة كبيرة وقْتَها. في وقت أزمة كورونا كانتِ الزِّراعة، ولو في أحواض صغيرة، فرصةً أوَّلًا لِيبقيَ النَّاس على النَّشاط العضلي مع تعذُّر الخروج والانتقال. وفي الوقت نَفْسه فرصة أيضًا لتقليل التَّعامل مع الأسواق. صحيح أنَّ الزِّراعة في مساحات صغيرة رُبَّما لا تكفي حاجة الأُسرة من الاستهلاك، سواء من الخضراوات وبالتَّأكيد من الفاكهة، لكنَّها تسدُّ قدرًا من تلك الحاجة ولو لفترة موسميَّة محدودة. ثمَّ إنَّه إذا انتشرتْ تلك الطَّريقة وزرع الجميع، رُبَّما يُمكِن العودة إلى العلاقات القديمة بأن يمدَّ المرء جيرانه بما يتوافر لدَيْه من محصول في وقته حين لا يستطيع استهلاكه كُلَّه في وقت قصير. وهكذا يفعل الآخرون حَوْلَه بما يؤدِّي إلى نَوع من الاكتفاء الذَّاتي الجزئي مهما كان هذا الجزء بسيطًا. طبعًا هناك فوائد متعدِّدة للزِّراعة ولو في مساحات صغيرة أو حتَّى أحواض غير المحصول للاستهلاك الإنساني. ففكرة أن ترعى نباتًا وتراه ينمو ويثمر فيها قدر كبير من العلاج لكثير من أعراض عِلَل العالَم المعاصر بكُلِّ ما فيه من تقدُّم تكنولوجي. ناهيك طبعًا عمَّا للنِّبات من فوائد بيئيَّة، ليس للمحيط العامِّ فحسب، بل لِمَن هو قريب مِنْه من امتصاص ثاني أوكسيد الكربون من الجوِّ وإخراج الأوكسجين. ورغم ما قد يُثير التَّندُّر ممَّن لدَيْهم بيوت بها حديقة، مهما صغرتْ، إنَّهم يكتفون بأيِّ «خضرة» في الأرض لأنَّها مريحة للعَيْنِ وتشيع جوًّا نَفْسيًّا جيِّدًا، فإنَّ تلك فائدة أخرى مُهِمَّة للزِّراعة مهما كان حجمها ونَوعها. أعلمُ جيِّدًا أنَّ هذا الأمْر ليس اقتصاديًّا إلى حدٍّ كبير، فرُبَّما تكلِّف زراعة بعض الخضراوات أكثر ممَّا تُنفق على شرائها مباشرة من السُّوق. فبالتَّأكيد الزِّراعات في مساحات فلاحيَّة واسعة من الأرض الزِّراعيَّة تنتج ما يكفي لِيكُونَ مُجديًا اقتصاديًّا، سواء للاستهلاك أو البيع والربح مِنْه. لكن من تجربة شخصيَّة، سيكُونُ ذلك في البداية واضحًا جدًّا. إنَّما مع دَوْرة السِّنين سيتوافر لك ما يُمكِن اعتباره «بنية أساسيَّة للزِّراعة» من أرض خصبة ولو في أحواض صغيرة تقلبها كُلَّ عام مع إضافات بسيطة غير مكلفة أو قطع الأرض الَّتي تعبتَ فيها العام الأوَّل والثَّاني. وأغْلَب الخضراوات والفاكهة من الشُّجيرات غير الكبيرة المعمِّرة يُمكِن استزراعها سنويًّا دُونَ الحاجة للإنفاق على غرسها كُلَّ موسم. نعم، قد لا تنتج تلك الزِّراعات ما يكفي الاستهلاك المنزلي طوال الموسم، لكن ـ كما قُلنا ـ لو انتشرتِ التَّجربة سيتبادل القريبون من بعضهم ما تنتجه في موسمها بما يكفي الجميع لفترة معقولة. ورُبَّما في ذلك أيضًا تطوير للعلاقات الإنسانيَّة الَّتي كادتْ تندثر في ظلِّ التَّطوُّر التكنولوجي الهائل والانعزاليَّة الرَّقميَّة الَّتي نعيشها حاليًّا. ومرَّة أخرى فإنَّ تجربتي الشَّخصيَّة في السَّنوات الأخيرة شجَّعتِ الجيران أيضًا على الزِّراعة في المساحات الصَّغيرة المتاحة، بل أحيانًا يتمُّ التَّنسيق أن يزرعَ هذا خيارًا فيزرع الآخر باذنجان وهكذا ويتبادل الجميع الثِّمار. لا تستهينوا بالأمْر، ولا يجعلنا الوضع الحالي في المنطقة والعالَم نتردَّد. كما أنَّ «الوفرة» المتاحة من منتجات الزِّراعة لا تغني أبدًا عن أن تستزرعَ بعض ما تأكل، ليس فقط لأنَّه سيكُونُ فائق الجودة وبِدُونِ سماد ولا مبيدات ولا غيره وإنَّما لأنَّه سيكُونُ من «جهد يديك»، وتلك ميزة لا يشعر بها إلَّا مَن يمارسها. في ظلِّ كُلِّ الحديث عن المستقبل غير المضمون، وحتَّى احتمالات تسرُّب نووي في أيِّ مكان بالعالَم يضرُّ بالبَشَريَّة، لا ننسى الحديث الشَّريف: «إن قامتِ السَّاعة وفي يد أحَدِكم فسيلة، فإنِ استطاع أن لا تَقُومَ حتَّى يغرسَها فَلْيغرسْها». فازرعوا ما استطعتم ليس فقط لطعامكم وطعام جيرانكم، بل لمواجهة عِلَل هذا العالَم الحاضرة والمقبلة.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري