الجمعة 20 يونيو 2025 م - 24 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

هاتف المتصلة «ن» والإخلاء الأميركي

هاتف المتصلة «ن» والإخلاء الأميركي
الأربعاء - 18 يونيو 2025 05:26 م

عادل سعد

30

•عادت المتصلة (ن) إلى الاتصال الهاتفي بي بعد انقطاع لعدَّة أشْهُر لِتسألَني هذه المرَّة عن خلاصة الأخبار المكثَّفة بشأن أوامر الرَّئيس الأميركي ترامب الَّتي أوعز بها إجراء عمليَّة إخلاء لعددٍ كبير من الأميركيِّين الدبلوماسيِّين والعسكريِّين من منطقة الشَّرق الأوسط إلى خارج المنطقة حماية لهم، وشمول السّفارة الأميركيَّة في بغداد بهذا الإجراء، وكذلك بشأن العدوان «الإسرائيلي» على إيران. •لقد تعدَّتِ المتَّصلة (ن) الخامسة والسَّبعين من العمر، قُتل زوجها عام 1991 على هامش الغزو العراقي للكويت، وفقدتْ ابنها الوحيد في الصَّفحة الإرهابيَّة الَّتي ضربتِ العراق بعد عام 2003 وظلَّت تُكابد المزيد من المخاوف المشروعة وغير المشروعة وتتعاطى بعض المهدئات تخفيفًا من خليط مخاوف لا تستطيع السَّيطرة عَلَيْها. •خلال المخابرة الهاتفيَّة، أعربتِ المتَّصلة (ن) عن قلقها بصوت متهدج واحتمال تعرُّض بغداد إلى هجومٍ شديد، وأنَّها تفكِّر بمغادرة مسكنها إلى أربيل في كردستان العراق، وتسألني عن رأيي بهذه الخطوة، وكان ملخَّص إجابتي، (لن تتعرض بغداد إلى أسوأ ما تعرضتْ له من قصف وتدمير وترهيب، ثمَّ لماذا هذا القلق الزائد؟ أنا أعرف أنَّ بيتكِ ليس قاعدةً عسكريَّة ولا مصنعًا لإنتاج أسلحة متطوِّرة، بل وليس موقعًا ضِمن أحَد الأحياء السكنيَّة الخاصَّة، ولا محاذيًا لأيِّ موقع مسلَّح)، ويبدو أنَّني أقنعتُها بما قلتُه رغم أنَّني شعرتُ بقسوتي عَلَيْها. لكنَّ الحال جعلني أمام أدلةٍ استذكاريَّة عن ظاهرة التَّهليع المُزمن الَّذي ما زال يتحكم بالمشهد النَّفْسي المُجتمعي، بل وأمام تمنِّيات بالهروب غير المبرَّر، مع أنَّك ترى آخرين كُثرًا ليس لهم أجندة من هذا النَّوع، بل على العكس، تكيّف مع الخطر بالمزيد من التبصُّر الواقعي. •لا شك، أنَّ المخاوف الطَّبيعيَّة جزء أساس من الحالة الإنسانيَّة حيثُ التَّعريف المنطقي للشَّجاعة (الخوف المقهور). وحين تتجاوز هذه المخاوف السَّقف المعقول تتحول إلى عبء مَرضي ليس إلَّا. •خلال وقائع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كان المشهد يتغيَّر نَحْوَ الأسوأ على مدار السَّاعة، وكان عملي في وزارة الثَّقافة والإعلام ضِمن طاقم مكتب الوزير محمد سعيد الصحَّاف في الطَّابق الخامس من الوزارة يقتضي البقاء المكثَّف وفي كُلِّ تلك السَّاعات الحرجة المنطوية على التَّهديد المباشر لم ترفّ شعرة في جفن الصحَّاف ارتباكًا، بل على العكس من ذلك، كان يُدير العمل بأريحيَّة فارس حريص على ممارسة واجبه الوظيفي المتوازن. وأذكُر أنَّني حينها تداولتُ مع صديقي الباحث وليد الزبيدي بشأن حنكة الاطمئنان القوي والثِّقة الرَّاسخة الَّتي كان الصحَّاف يُدير بها المشهد الإعلامي العراقي، الوضع الَّذي وفَّر مزيجًا نادرًا من التَّحسُّب والاطمئنان رغم اشتداد القصف وتسابُق الأحداث نَحْوَ التَّصعيد. • في السِّياق أيضًا، تظلُّ رباطة جأش الطَّبيبة الفلسطينيَّة الاء النجَّار اختصاصيَّة الأطفال في مجمَّع ناصر الطبِّي واحدةً من الشَّواهد العواصم الَّتي ينبغي أن ننحنيَ إجلالًا لها. • آلاء النجَّار تسكن خان يونس جنوب قِطاع غزَّة، وكانتْ في نوبة عمل عِندَما أخبروها أنَّ ثمانيةً من أولادها استشهدوا إثر قصفٍ «إسرائيليٍ» طال منزلهم، بَيْنَما أُصيب ابنها التَّاسع وزوجها بجروحٍ بليغةٍ وقد جلبوا الضَّحايا أشلاءً حيثُ كانتْ تُواصلَ عملَها الطبِّي. •لقد توافر أكثر من فرصة واحدة لهذه المرأة المحتسبة أن تغادرَ إلى منطقة امِنة خارج غزَّة لكنَّها رفضتِ المغادرة بإصرار فيه المزيد من المواظبة المُشرِّفة القاطعة رغم الخطورة الشَّديدة على مصيرها ومصير أُسرتها. •إنَّ دروس الارتقاء بالصَّبر والتَّجلُّد شهادات إنسانيَّة للكرامة في مواجهة خليط الجزع والهلع والارتعاب، بعض المفردات المعروفة للذُّل.

عادل سعد

كاتب عراقي

[email protected]