قلَّما نجد على رقعة الشطرنج الجيوسياسيَّة في الشَّرق الأوسط ديناميكيَّة أكثر رسوخًا أو اختلالًا من تلك الَّتي ترسم تفاعلات القوى الإقليميَّة والدوليَّة مع إيران، وطموحها المشروع في امتلاك برنامجها النَّووي لكسب القدرة على الردع الَّذي يضمن حمايتها، علاوةً على الأغراض السلميَّة دُونَ الإضرار بالأمن والسِّلم الدوليَّيْنِ. ورغم ما أبدَتْه طهران من استعداد للتفاوض، بل دخلتْ عمليًّا في جولات تفاوضيَّة عديدة، وسبَقها التَّوَصُّل إلى إبرام اتِّفاق مع أميركا والغرب انسحبتْ مِنْه أميركا إبان الفترة السَّابقة لحكم الرَّئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، لا أنَّه لا تزال «إسرائيل» والولايات المُتَّحدة تمتلكان ما يُمكِن وصفه بـ»اليد الطولى»، القادرة على الوصول بعُمق إلى الشَّأن الإيراني من خلال العقوبات والمراقبة الإلكترونيَّة والحرب السيبرانيَّة ثمَّ القيام بهجمات منفردة تصدرتْ قيادتها «إسرائيل». فقد شمَّرتْ «إسرائيل» عن ساعدها لتعربد في السَّاحة الإقليميَّة العسكريَّة بالمنطقة وذلك في ضوء قراءة من جانبها صوَّرتْ لها أنَّ يَدَ المُجتمع الدولي مغلولة، فسارعتْ في الهجوم على إيران فهدمتْ وقتلتِ العلماء لرُبَّما دُونَ التَّفكير في تداعيات ردَّات فعل الهجوم على دولة ذات سيادة، فتبع ذلك هجوم مضاد من إيران قد لا يكُونُ مساويًا له في المقدار، لكنَّه حتمًا معاكس له في الاتِّجاه. في الواقع كُلُّ المعطيات قَبل الهجوم «الإسرائيلي» على إيران كانتْ تشي للجميع بمَن فيهم «إسرائيل» وأميركا والمراقبون بأنَّ المُجتمع الدولي على وَجْه العموم بما فيه روسيا النِّد الافتراضي للقوى الأميركيَّة المساندة لـ»إسرائيل»، والمنطقة العربيَّة على وجْه الخصوص ذوي أيادٍ مغلولة.. ليسَتْ عجزًا أو جبنًا .. بل لعددٍ من الاعتبارات والحسابات الاستراتيجيَّة المعقَّدة، وتشابك المصالح مع جميع أطراف الصِّراع. لقد قادتْ واشنطن على مدى عقود الجهود لعزلِ إيران، متَّهمةً إيَّاها بالسَّعي لامتلاك السِّلاح النَّووي وبتقويض استقرار المنطقة عَبْرَ أذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن، فيما ترى «إسرائيل» في إيران تهديدًا وجوديًّا، فشرعتْ «إسرائيل» في بادئ الأمْر باتِّباع مسارات أكثر سريَّة ولكنَّها لا تقلُّ حدَّةً في الإضرار بالطَّرف الآخر فسلكتْ طريق اغتيال العلماء النَّوويِّين الإيرانيِّين، وشنَّتْ هجمات سيبرانيَّة مثل فيروس «ستاكسنت» الشَّهير، ولكن في المجمل كلا البلدين يتحركان وفْقَ رؤية استراتيجيَّة واضحة وقدرات مؤسَّساتيَّة متقدِّمة وإرادة سياسيَّة ثابتة. إنَّ اليَدَ الطولى لـ»إسرائيل» وصلَ بها الغرور إلى تجاوز وانتهاك ميثاق الأُمم المُتَّحدة ومبادئ القانون الدولي، وهي متسارعة الخُطَى لتقطعَ الطَّريق أمام أيِّ اتِّفاق قد ينتج عن الجولات المتتاليَّة للمفاوضات الإيرانيَّة الأميركيَّة الهادفة لضمانِ الاستقرار بالمنطقة. ذلك الغرور والإحساس بالقوَّة الَّذي غمر القيادة «الإسرائيليَّة» لم يأتِ من فراغ، بل كان الكثير من الظُّروف الجيوسياسيَّة مغذية له فأصبحتْ له علفًا يزيده عنفوانًا، بدءًا من حالة الخلل في عمليَّات اتِّخاذ القرار بمجلس الأمن الدولي المنوط به التَّعاطي مع مثل هذه الصِّراعات، في حين أصبح استخدام حقِّ النَّقض المكفول لخمس دول فقط وسوء استخدامه معيقًا لمحاولات ضبط مسار التَّجاوزات «الإسرائيليَّة»، مرورًا بالانقسام الَّذي تعاني مِنْه المنطقة العربيَّة تجاه التَّعاطي مع كُلِّ ما يتعلق بقضايا المنطقة، فضلًا عن الافتقار المزمن للتَّنسيق الاستراتيجي تجاه القضايا العربيَّة والإسلاميَّة. أمَّا روسيا، النِّد الافتراضي للقوَّة الأميركيَّة المساندة لـ»إسرائيل»، فهي ـ أي روسيا ـ يفترض أنَّها الحليف الظَّاهري لإيران، والدَّاعم لها في الكثير من الجهود ذات العلاقة بالسِّلاح والتَّخصيب والمساندة لها دبلوماسيًّا، أصبحتْ هي الأخرى مكتوفة الأيدي حيثُ إنَّ التزامها تجاه طهران تحكمه الحسابات وليس المبادئ، فضلًا عن أنَّها مثقلة بحربها في أوكرانيا، وتعاني من ضغط العقوبات الغربيَّة، ممَّا قد يضطرها إلى تجنُّب الدُّخول في صدام مباشر مع الغرب لأجْلِ إيران. وبالنَّتيجة فإنَّ اختلال ميزان النُّفوذ، وعقلانيَّة دوَل المنطقة العربيَّة وحرصها على الاستقرار الأمني والاقتصادي والتزامها بمواثيق الأُمم المُتَّحدة جعلها تكتفي بالمراقبة والحذر ورفض كُلِّ ما هو غير قانوني وغير أخلاقي، في حين تعربد «إسرائيل» في المنطقة بحجَّة أنَّها تسعى للحفاظِ على بقائها ووجودها، وبالتَّالي تضرب يمينًا ويسارًا بَيْنَما تفضِّل مكوِّنات المُجتمع الدولي الأخرى بما فيها روسيا البقاء في منطقة رماديَّة.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»