في السابق كتبت مقالين نقديين لاثنين من مسرحيات سميحة أيوب، المقال الأول كان بعنوان (الناس اللي في الثالث: مسرحية بين الحدث والرمزية)، «جريدة الوطن بتاريخ 5 فبراير 2002م». والمقال الثاني بعنوان (ليلة الحنة بصمة إخراج لسميحة أيوب) «جريدة الوطن بتاريخ 24 أغسطس 2004م». وفي معرض القاهرة الدولي للكتاب، الدورة السادسة والثلاثين، وتحديدًا في 22 يناير 2004م، كان لي الشرف الأدبي حين اختارتني العملاقة سميحة أيوب بذاتها، لتقديم قراءة نقدية في ندوة من ندوات المعرض، حيث تناولت ورقتي سيرتها الذاتية المدونة في كتابها الذي بعنوان (ذكرياتي)، وطلبتْ من الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن (رحمة الله عليه) أن يقوم بتقديمي وقراءة مختصر سيرتي الذاتية أمام آلاف من جمهورها العريض ومحبي الثقافة والفن. الأمر الذي اعتبرته إضافة مشرفة لسيرتي الذاتية، خاصة وأن الندوة حضرها عدد كبير من مشاهير الكُتّاب والكاتبات في مصر. في الفترة من 22 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2004م، أقامت وزارة التراث والثقافة (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليًا) بسلطنة عُمان مهرجان عُمان الأول للمسرح، بما أن المهرجان كان حدثًا مهمًا في تاريخ الحركة المسرحية العُمانية، ويمثل حجر الأساس لمهرجانات المسرح المستقبلية في سلطنة عمان، كان من الطبيعي أن تدعو الجهات المعنية الفنانة سميحة أيوب بوصفها سيدة المسرح العربي، كي ترأس لجنة التحكيم. تلك اللجنة التي تشرفتُ باختيار الوزارة لي كي أكون أحد أعضائها، فكان أهم ما خرجت به من ليالي التحكيم تلك أسلوب سميحة أيوب في التحكيم، حيث الموضوعية والحيادية التامة. في منتصف شهر ديسمبر 2008م، سافرت مع الفنانة سميحة أيوب إلى دمشق بسوريا لحضور مهرجان رواد العرب الذي أقيم تحت رعاية معالي الدكتور رياض نعسان آغا، وزير الثقافة السوري حينئذ، كان المهرجان في الفترة من 20 إلى 22 ديسمبر 2008م، حيث تسلمت سميحة أيوب درع التكريم بوصفها رائدة في المسرح العربي، وتسلمتُ أنا درع التكريم نيابة عن جدتي الأستاذة الدكتورة فاطمة سالم بوصفها رائدة في المجال الأكاديمي، وبعد هذا المهرجان، دعتني الفنانة سميحة أيوب لحضور مهرجان المسرح في سوريا، الذي حضرته أيضًا الفنانة سميرة عبد العزيز والفنان رشوان توفيق، تلك هي معرفتي بسميحة أيوب الفنانة على الصعيدين: الرسمي والعملي. ذاكرة من حديد والقدرة على قراءة البشر أما معرفتي الشخصية بسميحة أيوب، فقد بدأت منذ أن كنا نتقابل لمامًا في منزل صديق لي يدعى يوسف (رحمة الله عليه) الذي كان يسكن بحي الزمالك بالقاهرة. في تلك الجلسات، لم يتجاوز حوارنا حدود المعارف، إلى أن جاء يوم، حيث أتتني صديقتي نادية في منتصف شهر ديسمبر 1997م، لتطلب مني الذهاب معها إلى منزل سميحة أيوب لتأدية واجب العزاء في وفاة زوجها الثالث، الكاتب الكبير سعد الدين وهبة (رحمة الله عليه). حاولت الاعتذار لصديقتي بشدة، لا لشيء إلا ليقيني أن سميحة أيوب لا تعرفني ولن تتذكرني، إذ من الطبيعي أن الفنان يقابل أو يجلس مع مئات من البشر، لكن ليس بالضرورة أن يتذكرهم جميعًا، ولعلمي أيضًا أن سعد الدين وهبة توفي في شهر نوفمبر من ذات العام، فكيف لنا أن نذهب لتأدية واجب العزاء بعد الوفاة بما يقرب الشهر من الزمان؟ أقنعتني صديقتي بقولها: صدقيني سميحة أيوب تعرفك. علاوة على أنه لم يكن بإمكاننا تأدية واجب العزاء ونحن خارج مصر، أنت كنت مسافرة إلى سلطنة عُمان، وأنا كنت في أميركا. أليس من الأفضل الذهاب الآن من عدم الذهاب على الإطلاق؟ وعلى حد قولها: (لو ما رحناش دلوقتي شكلنا حيبقى وحش أوي بعدين، حتصل بها وأخذ ميعاد). بالفعل ذهبت مع صديقتي مجاملة لها، لأن داخليًا لم أكن مقتنعة بأن سميحة أيوب ستتذكرني، صعدنا شقة سميحة أيوب الكائنة بالعقار رقم 55 ذي المدخل الرخامي البني اللون في شارع أبو الفدا آخر شارع محمد مظهر بالزمالك، أول شيء لفت انتباهي ونحن على باب الشقة الخشبي ذي اللون الأسود هو وجود قطعتين من النحاس لحرف (الإس) باللغة الإنجليزية، فاستنتجت أنهما الحرف الأول من الاسمين سميحة وسعد، استقبلتنا سميحة أيوب بدفء وبترحاب، لن أنسى هذا اليوم حين جلستُ بالصالون، أمسح أركان شقتها بنظراتي لأكتشف أن سميحة أيوب لها ذاكرة من حديد، حين فاجأتني بقولها: (مش أنت لما شوفتك زمان قُلتِ لي إن بابا كان سفير وأنك من سلطنة عُمان، وبتعملي الدكتوراه هنا وتلميذة الدكتور جابر عصفور؟) قلت لها: صحيح، حضرتك. فقالت: (أنا حاسة من عينيك إنك عايزة تشوفي كل حاجة في بيتي، قومي لفي في الشقة خذي راحتك خالص، وشوفي كل اللي أنت عايزاه). فبينما كانت سميحة تتجاذب أطراف الحديث مع صديقتي، مررت على كل جزئية في الطابق الأسفل من الشقة المطلة على النيل، حقيقةً، دخلت شققًا كثيرة في القاهرة تطل على النيل، لكنني لم أر أجمل ولا أروع من إطلالة شقة سميحة أيوب على النيل، تلك الإطلالة التي تكشف المنظر البانورامي كاملًا للنيل بكل أفرعه. أثناء تجوالي بالطابق الأسفل للشقة، لاحظت أن هناك سلمًا خشبيًا يؤدي إلى طابق علوي، فعرفت أن للشقة طابقين، لكنني لم أصعد الدرج وعدت لأجلس على مقعدي. فسألتني سميحة: (طلعت فوق؟) أجبت مؤكدة: لا طبعًا. فسألتني مبتسمة: (لا ليه؟ وكمان طبعًا! أنت مكسوفة ولا إيه؟)، فعلقتُ: إن الموضوع لا علاقة له بالخجل قدر ما هو ذوق ومتعلق بمراعاة خصوصية الآخر. فضحكت سميحة وقالت بخفة ظل: (أنا كل ما بشوفك بحب لهجتك اللي نصها لغة عربية فصحى، ومخارج الحروف عندك مضبوطة، وواضحة جدًا، وحلوة قوي، الآخر دي منك). ثم صحبتني من ذراعي قائلة: (قومي، تعالي نطلع فوق وشوفي اللي أنت عايزاه، خلي نادية تشرب القهوة براحتها). في الطابق العلوي، رأيت كل شهادات التقدير والميداليات المختلفة، وصورا مختلفة لسميحة أيوب في الطفولة والشباب، فضلاً عن صورها مع فنانات أخريات، ومررت مرور الكرام على بعض عناوين الكتب في المكتبة ذات الأرفف البيضاء. عرفتني سميحة على مكان جلوس زوجها الراحل، وتبادلنا الحديث عن المسرحيات العالمية، وأدخلتني غرفة نومها كي أراها. استمر الحديث بيننا إلى أن سمعت صوت صديقتي وهي تنادي عليَّ بصوت مرتفع: (مش يا لله بقى يا آسية نمشي، أنا ورايا ميعاد)، رديت سميحة صائحة: (طيب إحنا نازلين). تلك كانت زيارتي الأولى لسميحة أيوب، والتي أوقفتني على أول جانب من جوانب شخصيتها، ألا وهو قوة ذاكرتها وقدرتها على قراءة البشر، لاسيما حين قالت لصديقتي نادية وهي تودعنا عند الباب: (بصوا بقى واضح إنكم صحاب قوي، وواضح كمان إنكم شخصيتين مختلفتين)، ثم أعقبت موجهة كلامها إلى نادية قائلة: (ابقي اديها نمرة تليفوني)، وأكملت كلماتها موجهة كلامها إليَّ، حيث قالت لي بنبرة آمرة: (وأنت ابقي اتصلي، أحب أشوفك تاني).
د. آسية البوعلي
كاتبة عمانية t t
