الخميس 19 يونيو 2025 م - 23 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

في العمق: الدور الخجول لمراكز البحوث الاجتماعية فـي دراسة التحولات والظواهر المجتمعية

في العمق: الدور الخجول لمراكز البحوث الاجتماعية فـي دراسة التحولات والظواهر المجتمعية
الثلاثاء - 17 يونيو 2025 05:23 م

د.رجب بن علي العويسي

310

يضعنا تناول هذا الموضوع أمام قائمة عريضة من التَّحوُّلات والظَّواهر الاجتماعيَّة في مُجتمع سلطنة عُمان والمؤشِّرات المرتبطة بها في مجالات البنية السكانيَّة والتَّركيبة الديمغرافيَّة والتَّوظيف والتَّشغيل والتَّسريح، والعمالة الوافدة، والجرائم والجناة، والحالة الزواجيَّة، والأمراض غير المُعْدية والمُزمِنة والنَّفْسيَّة، والاستهلاك والتَّضخُّم والقروض البنكيَّة وغيرها، منطلقًا من قراءة هذه المؤشِّرات في تعظيم دَوْر مراكز البحوث الاجتماعيَّة والنَّفْسيَّة في دراسة هذه التَّحوُّلات وتوفير المعالجات المستدامة لها. وبالتَّالي جملة المؤشِّرات الَّتي باتتْ تؤكِّد هذا الحضور، فمثلًا يُشكِّل عدد المواطنين ما نسبته (56.72%) من عدد الوافدين الَّذين بلغ عددهم حتَّى منتصف مارس 2025 (2.291.694) ويُشكِّلون ما نسبته (43.28%)، بالإضافة إلى انخفاض نسبة المواليد العُمانيِّين الأحياء؛ إذ وحسب إحصائيَّات 2023 فقدْ بلغَ عدد المواليد الأحياء من العُمانيِّين الذُّكور (32,704)، فيما بلغ عدد الإناث (31,587)، بانخفاضٍ عن أعدادها في عام 2022، وبنسبة انخفاض للولادات الحيَّة في مؤسَّسات وزارة الصحَّة بلغتْ (17%) بَيْنَ عامَي (2019ـ2023)، وأظهرتْ إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حَوْلَ الجناة والجرائم لعام 2021 أنَّ الفئة العمريَّة (18-39) سنَة هي الفئات الأكثر في عدد الجناة حيثُ شكَّلتْ ما نسبته (73%) من إجمالي الجناة، وشكَّل العُمانيون نسبة (49%) من إجمالي الجناة، وأنَّ (30%) من الجناة العُمانيِّين ارتكبوا الجرائم الواقعة على الأموال، وفي المقابل شكَّل الأحداث ممَّن هم دُونَ سن الثَّامنة عشرة حضورًا في السُّلوك الإجرامي بواقع (3.8%) من نسبة الجناة. وفي المؤتمر الصحفي للادِّعاء العامِّ في فبراير لعام 2025 أشار إلى ارتفاع الجرائم المتعلقة بالتَّحرُّش الجنسي للأطفال في عام 2024، ووصل عدد قضايا الأطفال إلى (1325) قضيَّة، مِنْها (399) حالة تحرُّش وهتْك العِرض بالطِّفل. وشكَّل ارتفاع القوى العاملة الوافدة في القِطاع الخاصِّ والَّذي بلغ (2.035.529) مقابل (265.467) للعُمانيِّين فقط، تحدِّيًا اجتماعيًّا أيضًا في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل حيثُ جاء على لسان وزير العمل في المؤتمر الصحفي للوزارة في مارس من عام 2025 أنَّ عدد الباحثين عن عمل في آخر التَّحدِّيات يصل إلى (100) ألف، بالإضافة إلى زيادة عدد العاملين والموظفين غير العُمانيِّين في القِطاع الحكومي في الوظائف الدَّائمة للجنسَيْنِ بلغ (21.651)، كما أنَّ إجمالي عدد المُسرَّحِين العُمانيِّين من القِطاع الخاصِّ والمستفيدين من منفعة الأمان الوظيفي حتَّى نهاية عام 2024 بلغ (17.215) عُماني؛ وبلغ إجمالي الَّذين تقدَّمتِ المنشآت لإنهاء خدماتهم بنهاية عام 2024 (5.402) وبلغ عدد القوى العاملة الوطنيَّة الَّتي لم تلتزم (9) شركات بالإبقاء عَلَيْهم (423) مواطنًا؛ وأنَّ (%6.9) نسبة الارتفاع في عدد حالات الضَّمان الاجتماعي في سلطنة عُمان في عام 2023م، حيثُ بلغتْ نَحْوُ (79.6) ألف حالة، مقارنةً بنَحْوِ (74.5) ألف حالة في العام 2022. بالإضافة إلى مؤشِّرات الحالة الزواجيَّة حيثُ أظهرتْ أنَّ (%4.4) نسبة الانخفاض في عدد وثائق الزواج في عام 2023م لتصلَ لنَحْوِ (14.7) ألف وثيقة مقارنةً بنَحْوِ (15.4) ألف وثيقة في العام 2022. وفي الشَّأن نَفْسه فرغم وجود انخفاض في عدد وثائق الطلاق بنسبة (%8) في عام 2023م مقارنةً بالعام 2022، إلَّا أنَّها ما زالتْ تُشكِّل رقمًا صعبًا وتحدِّيًا اجتماعيًّا، حيثُ سجّلتْ أعلى نسبة في محافظة مسقط بنَحْوِ (26.3%) تليها محافظة شمال الباطنة بنَحْوِ (17.4%)، هذا الأمْر يأتي في ظلِّ ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والتَّضخُّم وارتفاع فواتير الكهرباء والماء والرسوم الحكوميَّة والخدميَّة، وزيادة القروض البنكيَّة الشَّخصيَّة، حيثُ بلغت في عام 2023 (9 مليارات و46 مليون ريال عُماني)؛ وبالتَّالي حجم التَّراكمات النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة، المرتبطة بهذه المؤشِّرات، حيثُ تُشير إحصائيَّات عام 2022 إلى زيادة في أعداد الزيارات المسجَّلة في عيادات الأمْراض النَّفْسيَّة وبلغتْ في مؤسَّسات وزارة الصحَّة فقط (108) آلاف مريض، بارتفاع (8%) مقارنةً بعام 2021، وأنَّ (32%) من الحالات الجديدة للأمراض النَّفْسيَّة هم في الفئة العمريَّة (0-18) سنَة، كُلُّ ذلك وغيره يطرح تحوُّلًا نَوعيًّا في دَوْر مراكز البحوث الاجتماعيَّة. ورغم ما أفصحتْ عَنْه المنظومة الوطنيَّة للبحث العلمي من وجود بنى تنظيميَّة لهذه المراكز البحثيَّة، سواء في جامعة السُّلطان قابوس وجامعة التقنيَّة والعلوم التطبيقيَّة أو كذلك في الجامعات الخاصَّة، أو في غيرها من المؤسَّسات كوزارة التَّنمية الاجتماعيَّة، وبعض مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ، وما يقوم به المركز الوطني للإحصاء والمعلومات من مسوحات واستطلاعات رأي حَوْلَ بعض القضايا الاجتماعيَّة وغيرها؛ وهي على الرّغم من قلَّة عددها، إلَّا أنَّها تُشكِّل نواة مهمَّة في تكوين هذه المنظومة، وبناء محدِّدات عملها وترسيخ مسارات قادمة لِتخطوَ خطوات أوسع في مسار التَّفعيل، في ظلِّ ما تحمله هذه المرحلة من تحوُّلات اقتصاديَّة عالَميَّة ووطنيَّة انعكستْ على المسار الاجتماعي، وما تطرحه المؤشِّرات الاجتماعيَّة الوطنيَّة من تساؤلات ونقاشات، حَوْلَ الدَّوْر النَّوعي المطلوب أن تؤديَه هذه المراكز في تشخيص الواقع الاجتماعي وقراءة توجُّهاته القادمة، وبالتَّالي يصبح البحث فيها أولويَّة وطنيَّة لتوسيع فرص الاستفادة مِنْها، أو لِتَبنِّي الحلول والبدائل المناسبة للتَّقليل من تأثير هذه الظَّواهر على الأُسرة والمُجتمع. إلَّا أنَّ ما يظهر عن هذه المراكز البحثيَّة من نتاج بحثي محكم ومقنَّن أو ما تضمُّه من كفاءات بَشَريَّة أو صناعة الأثَر الَّذي تتركه في الواقع الاجتماعي وحلحلة أو دراسة الكثير من القضايا الَّتي أشرنا إلى بعضها وتداعياتها لا يزال دُونَ الطُّموح أو يمارس على استحياء، بالإضافة إلى عدم وضوح المسار الإنتاجي وخط سَير عمل هذه المراكز بما يُحقِّق أولويَّات رؤية عُمان 2040 أو يُجيب عن التَّساؤلات الَّتي يطرحها ارتفاع بعض المؤشِّرات الَّتي ذكرنا بعضها سابقًا، وآليَّة عملها في تنفيذ التَّوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بشأن دراسة الظَّواهر الاجتماعيَّة والفكريَّة والسكانيَّة؛ وعَلَيْه فإنَّ هذه المؤشِّرات الاجتماعيَّة وما يرتبط بها من معطيات والفرص المتاحة، تتَّجه نَحْوَ استحضار جملة الموجّهات الآتية: ـ حوكمة مراكز البحوث الاجتماعيَّة والتوسُّع فيها من خلال تبنِّي سياسات تنمويَّة وتشريعات تحافظ على درجة الكفاءة في الممارسة الأخلاقيَّة والتَّجريبيَّة البحثيَّة والتَّدريبيَّة والتَّوعويَّة والتَّسويقيَّة لهذه المراكز والمراصد في تشخيص التَّحوُّلات والظَّواهر الاجتماعيَّة وتأطيرها، ونقلها من دائرة تنفيذ الدِّراسات والبحوث الوقتيَّة، إلى كونها مؤسَّسات استراتيجيَّة وبيوت خبرة ترفد المؤسَّسات المعنيَّة ومتَّخذي القرار بالنَّتائج التَّنفيذيَّة لها في الواقع. ـ رفع مسار المحتوى البحثي لمراكز البحوث الاجتماعيَّة بحيثُ تطرح في أجندة عملها قضايا السَّاعة خصوصًا تلك المتعلِّقة بالهُوِيَّة والمواطنة والقِيَم والأخلاقيَّات والسُّلوك الاجتماعي والذَّوق العامِّ، وقضايا الاستهلاك والتَّعامل مع التقنيَّة ومنصَّات التَّواصُل الاجتماعي وتأثيرها على السُّلوك الاجتماعي والتَّربية الأُسريَّة، والثَّورة الصِّناعيَّة الرَّابعة والقِيَم والأخلاقيَّات والوظائف وسُوق العمل، وغيرها من القضايا الجوهريَّة الَّتي باتتْ تؤثِّر على القضايا العامَّة كالزواج والطَّلاق وحاجتها إلى المزيد من التَّأطير والقراءة المعمَّقة لها وفْقَ أُسُس علميَّة ومنهجيَّات بحثيَّة رصينة، وأن تمتلك هذه المراكز الممكنات البحثيَّة والأدائيَّة والتَّسويقيَّة والتَّطويريَّة وغيرها بما يُتيح لها فاعليَّة الدَّوْر في التَّعامل مع هذه المعطيات، والمهنيَّة في رسم ملامح التَّغيير لصالح البناء الاجتماعي. ـ تبنِّي أُطر وطنيَّة تراعي الخصوصيَّة والسَّمْت العُماني والظُّروف الاقتصاديَّة في دراسة المؤشِّرات الاجتماعيَّة، وابتكار برامج وأدوات ومبادرات تعمل على تمكين هذه المراكز من تعزيز القرار الوطني للحدِّ من انتشار الظَّواهر المُجتمعيَّة، وتوفّر بيانات وتحليلات مرجعيَّة للواقع من شأنها أن تُتيح للمشرِّع ومتَّخذي القرار وراسمي السِّياسات الاجتماعيَّة الوطنيَّة والقائمين على القِطاعات الاجتماعيَّة وتصنيفاتها بالمؤسَّسات، في تقديم حلول وبدائل ومعالجات دقيقة في التَّعامل مع معطيات الواقع الاجتماعي، ويستمر دَوْر هذه المراكز البحثيَّة الاجتماعيَّة في توفير المعالجات واقتراح السِّياسات الَّتي تحتاجها. أخيرًا، فإنَّ الرِّهان على دَوْر مراكز البحوث الاجتماعيَّة في قادم الوقت، يستدعي مراجعة اختصاصاتها وآليَّاتها وموقعها في الهياكل التَّنظيميَّة للمؤسَّسات، ومستوى الجاهزيَّة والصَّلاحيَّات الإداريَّة والتَّنظيميَّة والتَّمويليَّة والبَشَريَّة والبحثيَّة والماديَّة لها، والَّتي تمنحها سُلطة التَّواصُل مع متَّخذي القرار أو على صعيد التَّشريعات والبنية التَّنظيميَّة والهيكليَّة والسُّلوك العامِّ للمواطن، وإعادة هيكلتها وتنظيمها ومنحها الاستقلاليَّة الإداريَّة والماليَّة وفْقَ مسار تنظيمي وهيكلي جديد، في سبيل معالجة تسارع الظَّواهر السَّلبيَّة الاجتماعيَّة والفكريَّة وطبيعة المؤشِّرات الاجتماعيَّة الَّتي باتتْ تدقُّ ناقوس الخطر.

د.رجب بن علي العويسي

[email protected]