تتفاخر المدارس الدبلوماسيَّة البريطانيَّة وبعض الدول الغربيَّة بإضافة المهارات وفنِّ الدبلوماسيَّة إلى كُليَّات الإعلام والصحافة لِمَا لها أهميَّة كبيرة في إيصال المعلومة بكُلِّ سلاسة وحِرفيَّة من خلال التَّعامل مع وسائل الإعلام وخصوصًا سِمات الدبلوماسيَّة الشَّعبيَّة الَّتي تغزو العالَم متجاوزةً كُلَّ القوانين وسيادة الدَّولة. فنُّ الدبلوماسيَّة لا يقتصر على المفردات المتعارف عَلَيْها، وإنَّما أدخلتْ محاور جديدة ومهمَّة للصحفي والإعلامي ومِنْها (كيفيَّة التَّعامل مع وسائل الإعلام، محتوى الخبر، اختيار الكلمة المناسبة، عِلم المعنى، تسلسل الأفكار المطروحة، عِلم الوظيفة، تكتيك الأسئلة المطروحة، فنُّ الاستماع والإنصات، عِلم النَّحْو، اعتماد على المصادر الإخباريَّة الأخرى) وغيرها من المفردات والمحاور الأكاديميَّة المستحدثة والمطوَّرة؛ لِكَيْ تواكبَ الطَّفرات التكنولوجيَّة الحاصلة في مجال الإعلام، ومِنْها البودكاست والدبلوماسيَّة الشَّعبيَّة الَّتي غزَتِ العالَم بسُرعة البَرق. ما نلاحظه هذه الأيَّام بالأخبار العاجلة والهجمات «الإسرائيليَّة» على الجارة المُسلِمة إيران، وما يُسمَّى «بالضَّربات الاستباقيَّة» نلمسُ الدبلوماسيَّة الشَّعبيَّة أكثر اتِّساعًا وتأثيرًا على الجمهور في نقلِ الأحداث أوَّلًا بأوَّل، سواء من منازل المواطنين أو ممَّن يكُونُ قريبًا من موقع الضَّربة، وبالتَّالي فإنَّ الدَّولة لا تستطيع السَّيطرة على بثِّ هذه الصوَر أو الفيديوهات، ولكن طبيعة التَّعامل مع هذه وسائل الإعلام يَجِبُ أن يكُونَ بحِرفيَّة ومصداقيَّة، ولا تستطيع أن تنكرَ أو تتجاوزَ الخبر المنشور تحت مظلَّة الدبلوماسيَّة الشَّعبيَّة، ولكن التَّعامل معها بتحرير خبر يقلِّل من مستوى الخبر، سواء من ناحية الخسائر أو تحقيق الهدف؛ لأنَّ المواطن والدبلوماسيَّة الشَّعبيَّة لا تعتمد إطلاقًا على المعلوماتيَّة المدوّنة، وإنَّما تعتمد فقط على نقلِ الصوَر، وهو لا يكفي لإتمام الخبر، وهو ما يُسمَّى بالمصطلح الدبلوماسي «معلومة عرجاء». فنُّ الدبلوماسيَّة يتعامل مع وسائل الإعلام استنادًا إلى محتوى ووظيفة الخبر؛ لأنَّ في بعض الأحيان هناك معنى «غير مرئي» بَيْنَ السُّطور وغير مُدوَّن، وبالتَّالي التَّكتيك هنا هو الطَّريق الأمثل لمعالجةِ مثل هذه الأخبار والتَّعامل معنا بكُلِّ حِرفيَّة وجديَّة. وفي بعض الأحيان تميل الدبلوماسيَّة إلى التَّأنِّي في التَّعامل مع وسائل الإعلام لحين مَسْكِ الأدلَّة والمعاني الَّتي من خلالها يتمُّ اتِّخاذ ردِّ الفعل، سواء إيجابيًّا أو سلبيًّا. يُعَدُّ الإعلام بكافَّة أنواعه هو الواجهة الرَّئيسة لكُلِّ العلوم والأنشطة ومجالات الحياة، سواء الرَّسميَّة أو الاجتماعيَّة ولذلك فإنَّ البعثات الخارجيَّة تعتمد اعتمادًا كُليًّا على حِرفيَّة وحنكة وكفاءة السَّفير أو رئيس البعثة من خلال تحرير نشرة إخباريَّة صحفيَّة وإعلاميَّة لا تزيد عن (6-8) أسْطُر لجميع أخبار بلده، ومِنْها (السِّياسيَّة، الاقتصاديَّة، الصحيَّة، الثَّقافيَّة، الأكاديميَّة، الرِّياضيَّة، السِّياحيَّة، الاستثمارات وفرصها) وغيرها من الأبواب الَّتي لها تأثير على الجهة المستقبلة، وبالتَّالي فإنَّ السّفارة أو البعثة تكُونُ هي المُرسِل، ومن خلال هذه المهِمَّة والعمل فإنَّ البعثة أو السّفارة اعتمدتْ كثيرًا على الإعلام لِنَشْرِ الأهداف المركزيَّة المرسومة لها لغرضِ تحقيق التَّكتيك والاستراتيجيَّة المُخطَّط لها. يُعَدُّ السَّفير أو رئيس البعثة هنا بمقام الإعلام لبلده مستخدمًا الطُّرق الدبلوماسيَّة المعروفة. وكما هو معروف، فإنَّ فنون الدبلوماسيَّة في القرن الماضي اختلفتْ كثيرًا عن وقتنا الحاضر من حيثُ المصداقيَّة وتبادل المصالح وبناء الثقة في العلاقات الثنائيَّة، وبدأتْ سياسة الأقطاب وفرض القوَّة والعضلات من خلال استخدام الإعلام المخيف، وبالتَّالي فإنَّ التَّعامل مع وسائل الإعلام من النَّاحية الدبلوماسيَّة يَجِبُ أن يكُونَ بحذرٍ شديد وحنكة احترافيَّة مستندًا إلى الوقائع ومفاتيح الحدَث وبعيدًا عن الانفعالات وردود الأفعال السَّلبيَّة المتسرِّعة والَّتي قد تصل بنا إلى نتائج عكسيَّة. اهتمَّتِ الجامعات الأوروبيَّة، وخصوصًا في بريطانيا، بفنِّ الدبلوماسيَّة وكيفيَّة التَّعامل مع وسائل الإعلام، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبدأتْ تتعمق في هذيْنِ المجالَيْنِ وتردف فيها العلوم والمجالات الأخرى ضِمن أجندة وسِمات ومقرّرات ذات نظريَّات ومفاهيم مخصَّصة لكُلِّ عِلم ومن أشْهَر المجالات الَّتي تدرَّس الآن، ومِنْها (الإعلام الدبلوماسي، السِّياسي، الصحِّي، الاقتصادي، النِّفطي، العسكري، الثَّقافي، الأكاديمي، الرِّياضي، النِّسائي، الذَّكاء الاصطناعي، والاتِّصالات) وغيرها من المجالات والَّتي وضعتْ لها الأُسُس للتَّعامل معها.. فالمُراسل العسكري غير المُراسل الصحفي الاقتصادي، وكذلك بقيَّة الفروع وأسَّستْ بذلك سِمات وأجندة خاصَّة للتَّعامل مع وسائل الإعلام كلًّا حسب نَوعه ومجاله. يهدف الإعلام وبشكلٍ أساسٍ للوصول إلى أكبر عددٍ من النَّاس وبكافَّة الطُّرق التَّقليديَّة والحديثة. ونظرًا لأهميَّة هذا المجال واهتمام أشْهَر الشَّركات والدول به والمنافسة على تقديم أفضل الطُّرق الإعلاميَّة، أصبحتْ هناك دَوْرات تدريبيَّة كثيرة جدًّا في الإعلام، وخصوصًا بعد إدخال الذَّكاء الاصطناعي عَلَيْها؛ لغرض التَّعامل معه، كما اهتمَّتِ المدارس الدبلوماسيَّة بذلك.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت