يقوم الكثير من الدوَل والمؤسَّسات الكبرى بوضع رؤية استشرافيَّة مستقبليَّة ورسالة خاصَّة بها لتوجيه بوصلة خططها وبرامجها وأنشطتها لتحقيقِ مستقبل أكثر إشراقًا وأعظم منجزًا والارتقاء إلى مستويات عُليا في مجالات حيويَّة وأساسيَّة لنهضتها وتقدُّمها ورسوخها. ولدفعِ عجلة النَّهضة وتوجيه مؤسَّسات الدَّولة لمواكبة التَّحوُّلات الدوليَّة الكبرى أعدَّتْ سلطنة عُمان رؤية «عُمان 2040» لِتكُونَ مرجعًا شاملًا وموجِّهًا وخريطة طريق واضحة المعالم لتحقيقِ منجز حضاري عظيم. يُعَدُّ إعداد الرُّؤى الاستشرافيَّة المستقبليَّة إحدى أهمِّ أدوات الدوَل والمؤسَّسات الكبرى لتحقيقِ غاياتها الكبرى ولتوظيفِ إمكاناتها وقدراتها ولتوجيهِ سياساتها وخططها لتحقيقِ أهداف تنمويَّة كبرى. الرُّؤية هي استشراف قائم على معرفة جيِّدة وخبرة متمكنة بما قد يخبِّئه المستقبل من فرص وإمكانات وتحدِّيات ومخاطر وبناءً على ذلك يتمُّ تطوير المقاربات والقدرات لتحقيقِ الغايات المستهدفة واستطلاع الآفاق المأمولة. إعداد الرُّؤية المستقبليَّة يتطلب معرفة عميقة بالتَّحوُّلات وبنجاحات وإخفاقات الماضي وباستقراء واعٍ وعميق للمستقبل بمتغيِّراته وتحدِّياته وفرصه ومخاطره واحتمالات مساراته (سناريوهات) المختلفة. أنجح الرُّؤى الاستشرافيَّة هي تلك الَّتي تكُونُ نتاج تشارك مُجتمعي واسع والَّتي تعتمد على تقييمات وتحليلات أصحاب الخبرات والمعرفيِّين المتخصِّصين في القِطاعات المختلفة والمطَّلعِين على التَّجارب الحضاريَّة التخطيطيَّة، والتنفيذيَّة الوطنيَّة، والإقليميَّة، والدوليَّة. الجمع بَيْنَ المعرفة والخبرات المحليَّة الوطنيَّة وبَيْنَ الاطِّلاع الواسع والمتعمق على تجارب الدوَل والمؤسَّسات العالَميَّة ضرورة ملحَّة في إعداد الرُّؤى الاستشرافيَّة المستقبليَّة نظرًا لتداخل المصالح بَيْنَ الدوَل وللتَّأثيرات المتبادلة لسياساتها وأنشطتها. الرُّؤية الاستشرافيَّة المستقبليَّة تقوم على مبدأين أساسَيْنِ القدرة على استشراف المستقبل بوعي ومعرفة وواقعيَّة وعلى بناء مقدرات وممكنات ومؤكدات تحقيق أهداف وغايات الرُّؤية. الرُّؤية ليسَتْ خطَّة عمل، بل إطار استراتيجي وبوصلة مَرِنة ومتجاوبة مع المتغيِّرات مع إبقاء التَّركيز على الغايات الأسمى. تكُونُ الرُّؤية كليَّة متكاملة (الكميَّة) تربط وتكامل بَيْنَ رؤى مجاليَّة تخصُّصيَّة. رؤية «عُمان 2040» تقدِّم مثالًا واضحًا ذلك من خلال محاورها الرَّئيسة: الإنسان والمُجتمع، الاقتصاد التَّنمية، الحوكمة والأداء المؤسَّسي، والبيئة المستدامة. يتصدر «المستقبليون» دعوات استشراف المستقبل وبناء ممكناته ومؤكّدات (ضمان) تحقيق مستهدفاته وغاياته. غير أنَّه يغلب على اهتمامات كثير من المستقبليِّين مجالات التَّطوُّر والتَّقدُّم التِّقني وتأثير ذلك على الإنسان وطرائق معيشته. تطوُّر وتغيُّر قدرات وسلوكيَّات الإنسان فردًا ومُجتمعًا ذو أهميَّة بالغة ودَوْر محوري في تشكيل المستقبل وإن كانتْ لا تلقى القدر الكافي من الاهتمام والدِّراسة والتَّحليل لدى المستقبليِّين كالتَّطوُّر التِّقني. على المستقبليِّين إدراك أهميَّة التَّفاعل البَشَري وتطوُّر الإنسان في تشكيل المستقبل وذلك من خلال فَهْم واستقراء تغيُّر سُلوكه ونماء معارفه وتحسُّن أدائه وأثر ذلك على التَّحوُّلات الحضاريَّة الكبرى. ومن ذلك معرفة اختلاف خصائص الأجيال المتعاقبة (كجيل أكس وجيل زد وجيل الألفيَّة...) وأخذها في الاعتبار عِندَ استقراء التَّغيُّرات السُّلوكيَّة والأدائيَّة المستقبليَّة للأجيال الصَّاعدة والآتيَّة. فنجد مثلًا أنَّ جيل الألفيَّة يتمتع بالحركيَّة وقلَّة الأناة والشَّغف بالتقانة وحُب التَّغيير وبذلك تكُونُ لهم مقاربات مختلفة لأداء الأعمال وإنجاز المهِمَّات مقارنة بالأجيال الَّتي سبقتهم. ومن المُهمِّ أن يضمّنَ المستقبليون استقراءهم لتوجُّهات ولتطوُّرات الحضارة البَشَريَّة الكليَّة ببُعدَيْها الإنسان وسُلوكه من جانب وإنتاجاته التقنيَّة ومنجزاته الحضاريَّة من جانب آخر. المستقبليون ليسوا أولئك الحالمِين بعوالم أكثر أريحيَّة أو نرجسيَّة، بل هم الفاعلون والنَّاظرون إلى المستقبل بواقعيَّة توازن بَيْنَ الفرص والتَّحدِّيات وبَيْنَ الإمكانات المتاحة والجهود الواجب بذلها. النَّظر إلى المستقبل بِعَيْن متفائلة مع إنماء روح المثابرة والإصرار سِمات أساسيَّة للإقدام ولبذل الجهد لتحقيقِ غايات الرُّؤية وأهدافها ولإيجاد العوالم المرتجاة لحياة سعيدة ومطمئنة لِبَني البَشَر ولازدهار ورخاء وحماية كوكب الأرض مستقر الإنسان وميدان سعيه. يَجِبُ أن يكُونَ المستقبليون الواعون والمعرفيون والمتطلعون إلى عوالم أكثر نماء ورخاء وسخاء حاضرين ممكَّنين في مختلف مواقع وضع السِّياسات، والتَّخطيط، والتَّنفيذ. فبهم يستشرف المستقبل ويُعَدُّ له إعدادًا جيِّدًا ومتقنًا. فعلى الدوَل والمؤسَّسات استقطاب أُولي الفكر المستقبلي وإشراكهم في إعداد رؤى مستقبليَّة استشرافيَّة طموحة مدعومة بكوادر مفعمة بروح وثَّابة مقدامة وعزم متين. وعلى المستقبليِّين امتلاك رؤى وتصوُّرات واضحة لما يُمكِن أن يحملَه المستقبل، وأن يجمعوا بَيْنَ التَّخطيط السَّليم والتَّنفيذ الأمين مع تكوين مرونة عالية وقدرة على الصُّمود في وَجْه تغيُّرات متوالية وتحوُّلات مستمرَّة ـ لا شك آتية ـ ومع الإبقاء على متابعة لصيقة بكُلِّ تقدُّم تِقني متسارع. في خضمِّ التَّنافس الشَّرس بَيْنَ الدوَل وبَيْنَ المؤسَّسات على امتلاك مقدرات المستقبل وعلى تعظيم المصالح الذاتيَّة وظهور توَجُّهات حمائيَّة وفي ظلِّ فشل العولمة في إيجاد أصعدة للتَّشارك والتَّعاون أصبح استشراف المستقبل ضرورة ملحَّة لكُلِّ دَولة ولكُلِّ مؤسَّسة والاستعداد للتَّعامل مع تطوُّراته. وعلى ضوء استشراف المستقبل تبنِّي الدوَل والمؤسَّسات قدراتها وإمكاناتها ومقدراتها لتأكيد موقعها ومنزلتها في خريطة العالَم المستقبليَّة والَّتي تتعدى الأبعاد السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والتقنيَّة لتشملَ كُلَّ مناحي الحياة ومجالات الحضارة الإنسانيَّة. يشهد العالَم اليوم تغيُّرات سياسيَّة سريعة، بدءًا من ظهور تحالفات جديدة بَيْنَ الدول، إلى تغييرات في نماذج الحوكمة والقيادة. فَهْم هذه التَّحوُّلات من خلال عدسات استشراف المستقبل سيُسهم ـ بلا شك ـ في اتِّخاذ قرارات استراتيجيَّة تساعد على مواجهة التَّحدِّيات وتعزيز الاستقرار. بقدر حنكة ودراية السِّياسيِّين بالعوامل الَّتي تؤثِّر على العلاقات السِّياسة الدّوليَّة والتَّغيُّرات الجيوسياسيَّة، وصعود القوى الاقتصاديَّة الجديدة، وحركات الإصلاح السِّياسي فإنَّ عَلَيْهم جعل نُصب أعْيُنهم المستقبل بتطوُّراته وتحوُّلاته كبوصلة سياسيَّة وأداة دبلوماسيَّة لضمانِ مصالح بُلدانهم المستقبليَّة وللمساهمة الفعَّالة في جعل العالَم أكثر أمانًا ورفاهًا ورخاءً. يَجِبُ على السِّياسيِّين تطوير جداراتهم وقدراتهم كمستقبليِّين يحملون رؤى استشرافيَّة تقدُّميَّة متمتِّعين بروح المبادرة والرِّيادة، وكذلك الانتقال من الاشتغال الكُلِّي بالأحداث الجارية إلى إعطاء رسم المستقبل وإعداد وبناء ممكنات التَّمكين والرِّيادة فيه النَّصيب الأكبر من الاهتمام. بَيْنَما يهتمُّ المستقبليون بالتَّطوُّرات التقنيَّة وانعكاساتها على الإنسان والمُجتمع فإنَّ كثيرًا من الرُّؤى الاستشرافيَّة تركِّز على مستهدفات التَّنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. الرُّؤى المتكاملة تتطلب تكاملًا وشموليَّة لكُلِّ مناحي الحياة ومجالات الحضارة الإنسانيَّة مع إعطاء المجالات المختلفة حقَّها من الاهتمام والعناية. من المُهمِّ إيجاد توازن وتكامل بَيْنَ الرُّؤى الكُليَّة العامَّة والرُّؤى المجاليَّة التَّخصُّصيَّة كما أنَّه مُهمٌّ وأساس وجود مستقبليِّين عموميِّين وآخرين مختصِّين. الرُّؤى تقدِّم أُطرًا استراتيجيَّة وبوصلة طريق بَيْنَما المستقبليون هم المحرِّكون والموجِّهون للسَّفينة للارتقاء إلى عوالم واسعة ومزدهرة وآفاقٍ رحبة ومنازل عُليا. التَّكامل يتطلب إحداث تقدُّم متوازٍ في المجالات الاقتصاديَّة والمعرفيَّة والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والتقنيَّة، والحضاريَّة. وكذلك يقتضي الارتقاء بالإنسان والمُجتمع سُلوكيًّا ومعرفيًّا ووعيًا وإنماءً لجداراته التَّخصُّصيَّة، والعلميَّة، والأدائيَّة، والتَّفاعليَّة. لِنجعلَ الرِّحلة إلى المستقبل مشوِّقة ومُمتعة وراقية وإنسانيَّة تفجِّر طاقات الإنسان وتُعظِّم مقدّرات الوطن وتُحافظ على الوطن والأرض لِتبقَى مستقرًّا للإنسان وميدانًا لسعيِه وسعادته. الرِّحلة إلى المستقبل بقدر ما يكتنفها من تشويق وتحفيز فإنَّها ـ بلا شك ـ ستكُونُ محفوفةً بالتَّحدِّيات والصِّعاب والانتكاسات والإخفاقات ممَّا يجعلها أكثر إمتاعًا عِندَ تجاوز العقبات وتحقيق النَّجاحات بعد الإخفاقات. إنَّ النَّظرة المتوازنة والشُّعور بالمسؤوليَّة وتحمُّل المشقَّات والصَّبر والمصابرة مصحوبة بالآمال الكبيرة ومدفوعة بشَغفِ الإنجاز والارتقاء كفيلة بتحقيق الرُّؤية والغايات العظمى وجعل المَسير إِلَيْها ناجزًا ومجزيًا و»عِندَ الصَّباح يحمد القوم السّرى». بهذا المقال أستكمل سلسلة مقالات عن المستقبل وممكناته بدءًا من استشراف المستقبل مرورًا بالولوج إلى المستقبل من خلال فَهْم الحاضر الَّذي لا يلبثُ أن يصبحَ ماضيًا لِتحلَّ محلَّه لحظات من المستقبل. ثمَّ تلتها ثلاثة مقالات ركَّزتْ على أهمِّ ممكّنات المستقبل وهي القدرات والجدارات والتقنيَّات. ثمَّ الخاتمة بهذا المقال الَّذي يستعرض أهميَّة الرُّؤى الاستشرافيَّة المستقبليَّة وأدوار المستقبليِّين في التَّقدُّم إلى آفاق المستقبل بتمكُّن واقتدار.
د. سلطان بن سعيد الشيذاني
مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان
ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية