منذُ نعومة أظافرنا ونحنُ نُربّى على أنَّ الإنسان يعرف نَفْسَه أكثر من أيِّ أحَد. ورُبَّما نثقُ في آرائنا، ونحكُم على تصرُّفاتنا، بل وأحيانًا نرسم لأنْفُسِنا صورة نعتقد أنَّها تعكسُ حقيقتنا. ألسْتَ معي أنَّ أشخاصًا حَوْلَنا دائمًا ما نسمعهم يُردِّدون بثقة «أنا أعرف نَفْسي»، ولكن... ماذا لو أنَّ هذه الثِّقة نَفْسها هي أكبر أوهامنا؟ ماذا ـ صدقًا ـ لو كانتِ الذَّات الَّتي نعتقد أنَّنا نعيش معها يوميًّا، ليسَتْ بالوضوح الَّذي نتصوره؟ حقيقة في السَّنوات الأخيرة، كشفتِ الدِّراسات النَّفْسيَّة والعصبيَّة عن فجوة مقلقة بَيْنَ تصوُّر الإنسان لِنَفْسِه وواقعه الفعلي! فهل أستطيع القول هنا: بأنَّ تلك الفجوة لا يراها مُعْظمنا، لكنَّها تؤثِّر على قراراتنا وعلاقاتنا وتوَجُّهاتنا الحياتيَّة. كيف لا؟ والدِّماغ البَشَري مدهش في قدرته على خلق مبرِّرات وسرديَّات تبدو منطقيَّة لكُلِّ ما نَقُوم به، حتَّى عِندَما لا تكُونُ منطقيَّة على الإطلاق. فعِندَما نغضب أو نُخطئ أو نتعثَّر في علاقة أو قرار، يُسارع عقلُنا إلى نسج رواية نُبرئ فيها أنْفُسَنا ونَلومُ الآخرين أو الظُّروف. ولعلَّ الكثير منَّا يدرك ذلك ضمنيًّا، ولا يخفى هذا على الكثير، حيثُ يُعرف هذا في عِلم النَّفْس بالتَّحيُّزات الإدراكيَّة، مثل تحيُّز التَّثبُّت، حيثُ نميل إلى تفسير كُلِّ شيء بما يدعم نظرتنا المسبقة، متجاهلِين ما يعارضها. وهنا أرَى أنَّ الأخطر من ذلك، حين يكُونُ الأشخاص الأقلُّ كفاءة هُمُ الأكثر ثقةً في قدراتهم، ليس بسبب الغرور، بل لأنَّهم يفتقرون إلى المهارات الَّتي تُمكِّنهم من تقييم أنْفُسهم بدقَّة. نحنُ لَسْنا فقط سيِّئي التَّقدير، بل عاجزون أحيانًا ـ للأسف ـ عن إدراك مدَى سُوء تقديرنا. من ناحية أُخرى، وفي عِلم الأعصاب، هناك ما هو أعمق. دراسات باستخدام التَّصوير الوظيفي بالرَّنين المغناطيسي أظهرتْ أنَّ الدِّماغ يتَّخذ قرارات قَبل أن نعيَها بثوانٍ. أي أنَّ هناك مستوًى غير مرئي من «الأنا» ـ إن استطعتُ القول ـ يعمل بِصَمْتٍ، ويصوغ توَجُّهاتنا قَبل أن ندركَها. فهل «أنا» الواعي هو مَن يتحكم؟ أم أنَّني مجرَّد راكب في قطار عقلي يَقُودُه سائق لا أراه؟ حتَّى الذَّاكرة، الَّتي نعتقد أنَّها سجلُّنا الأمين، ليسَتْ كما نظنُّ. بل هي أكثر هشاشةً ممَّا نُحبُّ أن نصدقَ. فهناك التَّجارب النَّفْسيَّة والَّتي أثبتتْ إمكانيَّة زرع ذكريات خاطئة لدَى النَّاس، وجعلهم يتذكرون تفاصيل أحداث لم تحدُثْ. وعِندَما تُبنَى هُوِيَّتنا على ذكريات مشوَّهة أو منقوصة، فإنَّنا نعيش أحيانًا حياة مبنيَّة على وَهْمٍ شخصي، أشْبَه برواية كتبناها نحن، لكن بأقلام غير دقيقة! لذلك من الجيِّد فَهْم أنَّ علاقاتنا مع الآخرين هي مرآتنا الحقيقيَّة، رغم أنَّنا كثيرًا ما نرفض ما يظهر فيها. فحين يقول لك صديق إنَّك تميل للسَّيطرة أو المبالغة في الحساسيَّة، تدافع فَورًا: أنا لسْتُ كذلك! لكن رُبَّما يكُونُ مُحقًّا. ورُبَّما هذه طبيعة الإنسان من زاوية أخرى فهو لا يُحبُّ أنْ يرَى من زوايا لا يتحكم بها. لذلك، نميل إلى إنكار الملاحظات الصَّادقة ونتمسَّك بصورة الذَّات الَّتي تُريحنا. غير أنَّ تلك الملاحظات المقدَّمة من الآخرين قد تكُونُ أصدَقَ من حديثنا الدَّاخلي؛ لأنَّها تأتي من مرآة لا تُحابي. ما أعنِيه هنا ـ إن كان طرحي واضحًا ـ أنَّها لا تعني أنَّنا سيِّئون، بل فقط إنَّنا بَشَر معقَّدون، ولَسْنا شفَّافِين مع أنْفُسنا كما نعتقد. لذلك السُّؤال الأهمُّ هنا: كيف نعرف أنْفُسنا بصِدْق؟ رُبَّما من منظور شخصي أرَى بأنَّ الخطوة الأُولى هي التَّواضُع، أن نقرَّ بأنَّ معرفتنا بذواتنا محدودة، وأنَّنا لَسْنا معصومِين من الوهمِ الشَّخصي. ثمَّ يأتي بعد ذلك العمل: بمعنى التَّأمُّل الواعي، طلب الملاحظات من الآخرين، الخضوع لتقييمات نَفْسيَّة مهنيَّة، ورُبَّما أهمُّ من ذلك، الإنصات الحقيقي لِمَا نَقُوله ولِمَا يَقوله الآخرون عنَّا، دُونَ دفاع أو إنكار. هذا لا يعني قطعًا أنَّ معرفة الذَّات أن تجلدَ ذاتك، بل تعني احتضانها بواقعيَّة وشجاعة. فلا يُمكِنك إصلاح ما لا ترَى... أوَلَيْسَ كذلك؟ ختامًا، وفي عالَم يعجُّ بالشِّعارات الَّتي تُمجِّد الثِّقة بالنَّفْس والصَّوت الدَّاخلي، تبدو فكرة ـ أنْتَ لا تعرف نَفْسك جيِّدًا ـ وكأنَّها تضعف من قِيمة الإنسان. لكنَّها على العكس، تمنحه أعظم فرصة للتَّطوُّر. أن تعترفَ بأنَّك لا تعرف نَفْسك تمامًا، هو أوَّل اعتراف حقيقي بأنَّك قادر على أن تعرفَها بشكلٍ أعمق. والصِّدق يُقال، رحلة معرفة الذَّات لا تنتهي، تمامًا كما لا تنتهي الحياة. فهي ليسَتْ علامة ضعف، بل دليل وعي، وشهادة على أنَّك حيٌّ، ولعلَّك تريد أن تكُونَ أفضل نسخة من نَفْسِك.. وهذا في جوهره، أسْمَى أشكال القوَّة!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي