الاثنين 16 يونيو 2025 م - 20 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

حين تصبح اللغة الأم فـي مهب الاندثار

حين تصبح اللغة الأم فـي مهب الاندثار
الأحد - 15 يونيو 2025 05:36 م

نبيلة رجب

10

في زمن يتغيَّر فيه كُلُّ شيء بسرعة، تُنذر الإحصاءات بحقيقة مقلقة: من بَيْنِ نَحْوِ سبعة آلاف لُغة حيَّة في العالَم، تُشير التَّقديرات إلى أنَّ ما بَيْنَ (1500) إلى (3000) لُغة قد تختفي بحلول نهاية هذا القرن. ورغم أنَّ بعض التَّقارير الإعلاميَّة تُشير إلى اختفاء لُغة كُلَّ أسبوعَيْنِ، فإنَّ الدِّراسات الحديثة ترجِّح أنَّ المعدَّل الفعلي أقرب إلى ثلاث لُغات في السَّنة؛ أي لُغة واحدة كُلَّ ثلاثة إلى أربعة أشْهُر. ومع ذلك، يبقى التَّهديد قائمًا، ويكفي أن نعلمَ أنَّ كثيرًا من هذه اللُّغات لم تُوثَّق بعد، ولا تُدرَّس، وقد لا تصل إلى الجيل القادم. اختارتْ منظَّمة اليونسكو يومًا عالَميًّا للاحتفاء باللُّغة الأُمِّ؛ إيمانًا مِنْها بأنَّ التنوُّع اللُّغوي ليس مجرَّد تنوُّع في الكلمات، بل تنوُّع في طُرق التَّفكير، في أساليب العيش، وفي الرُّوح الثَّقافيَّة لكُلِّ شَعب. والعالَم اليوم، في ظلِّ العولمة والتَّطوُّر التكنولوجي المتسارع، يواجِه تحدِّيًا كبيرًا: كيف نحافظ على هذا التنوُّع اللُّغوي دُونَ أن نُعطِّلَ مَسيرة التَّقدُّم؟ نرَى في مُجتمعاتنا كيف أصبح الأطفال يستخدمون مزيجًا من اللُّغات في حديثهم اليومي، وكأنَّ ألسنتَهم تتأرجح بَيْنَ عالَمَيْنِ: عالَم تقليدي له نكهة ولهجة، وآخر حديث تَغْلب عَلَيْه مصطلحات التقنيَّة والإعلانات والمسلسلات المترجمة. ما زلتُ أسترجع صوت جدَّتي ـ رحمها الله ـ وهي تروي حكايات ليليَّة بلُغة مليئة بمفردات لم نَعُدْ نسمعها كثيرًا. كانتْ تحكي عن زمن بسيط، وتستخدم كلمات تحتفظ بوقْعِها، لا لقِيمتها اللُّغويَّة فحسب، بل لِمَا تحمله من دفء وارتباط. كنتُ حينها لا أفْهَم كُلَّ ما تقول، لكنَّني كنتُ أستشعر في لُغتها شيئًا لا يُمكِن ترجمته: الانتماء. يؤكِّد علماء اللُّغة والأنثروبولوجيا أنَّ فقدان لُغة ما لا يعني فقط خسارة وسيلة للتَّواصُل، بل ضياع طريقة كاملة في رؤية العالَم والتَّعبير عَنْه. فبعض لُغات الشُّعوب الأصليَّة مثلًا، تمتلك مفردات دقيقة تصف ملامح الطَّبيعة، المواسم، وحتَّى العلاقات الاجتماعيَّة، لا نجد لها ما يعادلها بدقَّة في اللُّغات الكُبرى. والعربيَّة، بلُغتها الثريَّة، تُمثِّل أحَد أبرز الأمثلة على اللُّغات الَّتي حافظتْ على ملامح البيئات الَّتي نشأتْ فيها. في الخليج العربي مثلًا، تحتفظ العديد من المفردات المحليَّة بعُمق اجتماعي وثقافي لا يظهر في معجم اللُّغة، بل في سياقها وذاكرة النَّاس. فكلمة مثل «الفرجان»، على سبيل المثال، لا تصف حيًّا سكنيًّا فقط، بل تستحضر صوَر الجيرة القديمة، وساحات اللَّعب، ودفء العلاقات الَّتي صاغتْ ملامح الطُّفولة في مُدُننا السَّاحليَّة. هذا العُمق لا يخصُّ لُغتنا وَحْدَها. ففي لُغات إفريقيَّة وآسيويَّة وأمازيغيَّة وغير ذلك، نجد تعبيرات تحمل بَيْنَ طيَّاتها مفاهيم يصعب نقلها كما هي؛ لأنَّها مرتبطة بطريقة النَّاس في العيش والشُّعور والتَّفكير. ومع دخولنا العصر الرَّقمي، بدأتْ تظهر لُغة جديدة موازية: رموز، واختصارات، ومفردات هجينة تختصر كثيرًا وتفقد كثيرًا. لكن في مقابل ذلك، ظهرتْ مبادرات مُلهِمة من الشَّباب والمُجتمعات المحليَّة حَوْلَ العالَم، تستثمر وسائل التَّواصُل لإحياء لُغاتهم الأُمِّ، وابتكار محتوى إبداعي يُعِيدُ لها نبضها. بل إنَّ التكنولوجيا، رغم ما تُتَّهم به، أصبحتْ حليفًا في حفظ اللُّغات. هناك منصَّات رقميَّة ومبادرات بحثيَّة تعمل على توثيق اللُّغات المُهدَّدة بالانقراض، وتسجيل مفرداتها وقواعدها وأمثالها الشَّعبيَّة، بعضها بمساعدة الذَّكاء الاصطناعي. هذه الجهود تمنح كثيرًا من اللُّغات فرصة للنَّجاة، أو على الأقلِّ، للحفظِ في الذَّاكرة البَشَريَّة. تجارب بعض الدوَل كذلك تحمل دروسًا مُهِمَّة. فاليابان مثلًا، رغم انفتاحها التكنولوجي الهائل، حافظتْ على لُغتها كأداة يوميَّة للمعرفة والإنتاج. أمَّا كوريا الجنوبيَّة، فتبنَّتْ نهجًا ذكيًّا يُمكِّن المواطن من إتقان لُغته الأُمِّ إلى جانب الانفتاح على اللُّغات العالَميَّة، دُونَ أن يفقدَ ارتباطه بجذوره. وعلى الصَّعيد الدّولي، تُواصلُ منظَّمة اليونسكو دعمها للتنوُّع اللُّغوي، عَبْرَ برامج مثل «أطلس اللُّغات المُهدَّدة بالانقراض» و»التَّعليم متعدِّد اللُّغات»، الَّتي تشجِّع الدوَل على بناء سياسات تعليميَّة تحتفي باللُّغة الأُمِّ وتدمجها في المناهج. والمُثير فعلًا أنَّ دراسات عِلم النَّفْس المعرفي أظهرتْ أنَّ اللُّغة لا تؤثِّر فقط على تعبيرنا، بل على إدراكنا للعالَم من حَوْلِنا. فالَّذين يتحدثون لُغات تعتمد الاتِّجاهات الجغرافيَّة بدلًا من «يمين» و»يسار»، طوَّروا قدرات توجيه عالية. وبعض اللُّغات الَّتي تملك تصنيفات دقيقة للألوان تمنح متحدِّثيها حساسيَّة أعلى تجاه الفروق البصريَّة الدَّقيقة. في النِّهاية، تبقى مسؤوليَّة الحفاظ على اللُّغة الأُمِّ مسؤوليَّة جماعيَّة، تبدأ من داخل البيت. من الحكاية الَّتي نرويها لأطفالنا، من القصص الشَّعبيَّة الَّتي نُعِيدُ قراءتها، ومن لحظات الدِّفء الَّتي نغرس فيها كلمات تشبهنا. ففي عالَم يمضي نَحْوَ التَّنميط، تصبح اللُّغة الأُّمُّ ليسَتْ فقط وسيلة تعبير، بل وسيلة بقاء ثقافي. ورُبَّما لا نملك منع انقراض كُلِّ اللُّغات، لكن بإمكاننا أن نحميَ لُغتنا.. بأنْ نجعلَها حيَّة في بيوتنا، وفي قلوبنا.

نبيلة رجب

كاتبة من البحرين

[email protected]