لم تَكُنْ سلطنة عُمان بحاجة إلى وقت طويل لِتعلنَ موقفها ممَّا جرَى من قصف صهيوني للأراضي الإيرانيَّة، فالبيان الصَّادر عن وزارة الخارجيَّة حمَل نبرةً عالية لا تعرف التَّردُّد، ومفردات محسوبة تعكس عُمق الفَهْمِ لطبيعة الحدث وخطورته على مُجمل التَّوازنات في الإقليم. فقَدْ جاء الاعتداء في لحظة مشحونة بالمحاولات والجهود الدبلوماسيَّة للتَّهدئة عَبْرَ المفاوضات غير المباشرة بَيْنَ الجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة والولايات المُتَّحدة، ما يضع علامات استفهام حَوْلَ توقيته ورسائله الخفيَّة؟ لذا مسقط ـ وهي تتابع هذا المشهد ـ لم تلتزمْ باللُّغة الرَّماديَّة، لكنَّها حمَلتْ في بيانها ملامح رؤية شاملة، ترَى أنَّ هذا العمل لا يُمكِن فصلُه عن سلسلة من السُّلوكيَّات الممنهجة الَّتي تستهدف نَسْفَ أيِّ تقاربٍ سياسي أو تفاوضي في الإقليم، والعدوان فِعل محسوب يُراد له أنْ يَقُودَ الإقليم إلى نقطة اللاعودة، الَّتي تفجِّر الأوضاع وتقضي على فرص الأمن والاستقرار والسَّلام في الشَّرق الأوسط، ومن هُنَا جاء الموقف العُماني رافضًا للنَّهج المُتهوِّر الَّذي يُقحم الإقليم في دوائر دمار متوالية دُونَ أُفقٍ واضح. مَن يُتابع التَّحرُّك السَّريع الَّذي قام به معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجيَّة يكتشف أنَّ عُمان باشرتْ عملاً دبلوماسيًّا واسع النِّطاق خلال ساعات معدودة، ولم تكتفِ ببيانها الأوَّل، فقَدْ أجرَى معالي السَّيد وزير الخارجيَّة اتِّصالات مع عددٍ من وزراء خارجيَّة الدوَل المؤثِّرة، واضعًا الجميع أمام صورةٍ أوضح لِمَا جرَى، بصوتِ العقل الَّذي تتميَّز به سلطنة عُمان حيثُ تميَّز الخِطاب العُماني بالابتعاد عن لُغة المجاملة أو الانفعال، وحمَل نبرةً عقلانيَّة تُحمِّل المعتدي مسؤوليَّة ما حدَث وتُطالب المُجتمع الدّولي بأنْ يكُونَ شريكًا في كبحِ جماح هذا المسار الخطير، وهو موقف يُعِيد التَّذكير بأنَّ الإقليم لا يحتمل مزيدًا من العبَث، وأنَّ السِّيادة الوطنيَّة لأيِّ دَولة يَجِبُ أن لا تخترقَ بهذه البساطة بذرائع مُتكرِّرة فقَدتْ كُلَّ معنى. فالرِّسالة العُمانيَّة واضحة، وتؤكِّد أنَّ هناك مَن يُحاول إغراق الخليج والإقليم بأكمله في صراعات مفتوحة، ومن الضَّروري أنْ يُواجَهَ هذا المشروع بجدارٍ سياسي مُوَحَّد يُعِيد الاعتبار للقانون والمبادئ الدّوليَّة. ما يُميِّز التَّحرُّك العُماني أنَّه لا يخرج من حسابات اللَّحظة، بل ينبع من تراكم طويل في فَهْمِ أدوات الاستقرار الحقيقي، فمسقط تعرفُ جيِّدًا أنَّ ضرب دَولة بحجمِ إيران لا يتعلَّق فقط بإيران، لكن يحمل في طيَّاته تهديدًا صريحًا لكُلِّ دَولة في الإقليم؛ لأنَّ القصف الصهيوني مُوَجَّه ضدَّ منطق السِّيادة ذاته، ما يجعل هذا العدوان يبتعد عن أيِّ فكرة مسبقة للصِّراع بَيْنَ دَولتَيْنِ متجاورتَيْنِ يَنشأُ بَيْنَهما نزاع حدودي، ويرسِّخ لشكلٍ جديد يعتدي على قواعد اللُّعبة بالكامل، ولهذا فإنَّ موقف سلطنة عُمان يُمثِّل مرآةً لمشروعِ سلامٍ إقليمي لا يريد أنْ تُكتبَ خرائطه بالدَّم، ويسعَى أنْ تظلَّ الحكمة والتَّفاهم هُمَا عنوان هذا المشروع، والتَّنديد الَّذي صدَر لم يكُنْ تحرُّكًا انفعاليًّا، بل قراءة باردة لِمَا يُراد للإقليم أنْ يذهبَ إِلَيْه، وهي قراءة تُعِيدُ تأكيدَ ما تؤمنُ به السَّلطنة منذُ عُقود، وهو أنَّ الحوار الصَّعب أهونُ ألْفَ مرَّةٍ من الحرب السَّهلة، وأنَّ الأمنَ يبدأُ حين تتوقفُ الأيادي عن الضَّغطِ على الزِّناد. إنَّ كُلَّ ما قالتْه عُمان خلال هذا التَّصعيد، وكُلَّ ما قامتْ به، يعكس موقعًا مبدئيًّا غير قابل للمساوَمة، فما يَدُور في الإقليم لا يُمكِن عزْلُه عن مشروع أوسع لتفكيكِ الإقليم من الدَّاخل عَبْرَ فوضى منظَّمة يُراد لها أنْ تتسترَ وراء شعارات الدِّفاع عن النَّفْس أو الرَّدع الوقائي. لكن عُمان بوضوحها ونزاهة موقفها، تجعلُ من هذا الادِّعاء مجرَّد ستار دخاني لا يصمد أمام الحقائق، لا يُمكِن الحديث عن أمْنٍ واستقرار، في ظلِّ سُلوكٍ عدواني يُعاقب الدوَل على خياراتها السِّياسيَّة، ويستهدف مَدَنيِّين دُونَ حساب، ولهذا جاء البيان العُماني كصفعةٍ ناعمة على وَجْه كُلِّ مَن يحاول تصوير العدوان كعملٍ اضطراري، فلا وجودَ لاضطرارٍ في قتل الأبرياء، ولا يُمكِن تطبيع فكرة الضَّربة الاستباقيَّة في عالَم يسعَى لتكريسِ مفهوم السِّيادة والسَّلام. هذه هي رسالة السَّلطنة للإقليم والعالَم، وحين تتحدَّث دائمًا ما تضعُ النِّقاط على الحُروف دُونَ مواربةٍ أو مجاملة، فالعدوان الصُّهيوني يَقُودُ الإقليم إلى حافَّة الهاوية.