أثارتِ المفاوضات الجارية بَيْنَ حكومة سلطنة عُمان وجمهوريَّة الهند بشأن اتفاقيَّة التِّجارة الحُرَّة، والَّتي أشارتْ خلالها بعض القنوات الإعلاميَّة والرقميَّة إلى وجود عقبة تُعرقل التَّوَصُّل إلى الاتِّفاق النِّهائي، وهي ـ حسب الجانب الهندي ـ سياسة التَّوطين أو التَّعمين الَّتي تُطبِّقها سلطنة عُمان لحماية حقوق مواطنيها في الموارد الوطنيَّة، موجة من التَّساؤلات والنِّقاشات ووجهات النَّظر على منصَّات التَّواصُل الاجتماعي، والَّتي نعتقد شخصيًّا فيها أنَّ التَّعمين أولويَّة وطنيَّة يَجِبُ أن تُفهمَ خارج نطاق المساومات المؤقَّتة والظُّروف الاقتصاديَّة المتغيِّرة، غير أنَّ ما يدعونا إلى القلق هو ما تمَّ طرحه من بعض الآراء الداخليَّة الَّتي ترى أنَّ «مصلحة الوطن فوق شرط التَّعمين»، معتبرين أنَّه لا ينبغي التمسُّك بالتَّعمين إذا كان يعوق تحقيق منافع اقتصاديَّة أو اكتساب خبرات جديدة. إنَّ هذا الطَّرح، في تقديرنا، يتعارض مع الأبعاد الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والوطنيَّة المرتبطة بهذه الاتفاقيَّات وحقوق المواطنين فيها، والفرص الإيجابيَّة الَّتي تتحقق لهم من حيثُ رفع مستوى المعيشة وحصولهم على الوظائف، بل ويظهر وكأنَّه تنازل عن السِّيادة الوطنيَّة على الوظائف والموارد لصالح اعتبارات اقتصاديَّة مؤقَّتة. فالتَّوظيف والتَّشغيل وتوطين الوظائف ليسَتْ حالات وقتيَّة أو مزاجيَّة، بل ثوابت وطنيَّة وركائز لا يُمكِن المساومة عَلَيْها أو التَّنازل عَنْها مهما كانتِ الظُّروف. والاستثمارات الأجنبيَّة، رغم أهميَّتها، تبقى رهينة تقلُّبات السُّوق، وتغيُّر الأوضاع، ولا يُمكِن الاعتماد عَلَيْها في بناء اقتصاد وطني منتج ومستدام، يَقُوده المواطن العُماني بكفاءة وفاعليَّة، فالاستثمار الأجنبي مرتبط بتغيُّر الظُّروف والأحوال، وهو حالة وقتيَّة تعتمد على المزاجيَّة وتقلُّبات السُّوق، لذلك لا يُمكِن الاعتماد عَلَيْه في بناء مُجتمع اقتصادي مواطن منتج قادر على إدارة موارده أو أن يصنع نفسه بنفسه أو أن يُعزِّز من كفاءة مواطنيه وموارده الوطنيَّة؛ نظرًا لِمَا يفرضه الاستثمار الأجنبي من امتيازات على الحكومات أن تفي بها في سبيل استقطاب الشَّركات والأموال الأجنبيَّة، ناهيك عمَّا يُمكِن أن تضخَّه الدَّولة من موارد للبنية الأساسيَّة، والأمْر فيه من التَّعقيد والاستلطاف ما لا يُمكِن تخيله في ظلِّ ثورة الشَّركات متعدِّدة الجنسيَّات والشَّركات العابرة للقارَّات الَّتي تفرض شروطها دُونَ اعترافها بِنِسَب التَّعمين الوطنيَّة لتوظيف العُمانيِّين. عَلَيْه، فإنَّ طرح موضوع التَّعمين والتَّوطين والدِّفاع عَنْه يرتبط بجملة من الموجِّهات ومِنْها: أولًا: اهتمام القيادة السِّياسيَّة في سلطنة عُمان بموضوع التَّعمين. عُنيتِ الخِطابات السَّامية للمغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السًّلطان قابوس بن سعيد بهذا الموضوع، وبمناسبة التقاء جلالته بأعضاء غرفة تجارة وصناعة عُمان في 18/2/1990 قال جلالته:»... إنَّ التَّعمين مطلب أساسي وحيوي وبِدُونِه لا يُمكِن أن نضمنَ للأجيال القادمة المستوى الكريم من العيش الَّذي نرجوه لهم، وبقدر نجاحنا في توسيع قاعدته، وبأقصى سرعة ممكنة، بقدر ما نجني من ثمار التَّنمية الَّتي شهدتها البلاد..»، وقد أكَّد جلالته على ضرورة القيام بِدَوْر أكثر واقعيَّة في تحقيق هذا الهدف وهي مسؤوليَّة وطنيَّة على الجميع أن يأخذها بِعَيْن الاعتبار، حيثُ قال: «إنَّ عَلَيْكم أن تولوا هذا الهدف كامل عنايتكم، وإذا كان تحقيقه يتطلب في بعض الأحيان شيئًا من التَّضحية فأنتم أهْل لأن تقوموا بذلك من أجْلِ بلدكم وإخوتكم، بل ومن أجْلِ مصلحة القِطاع الخاصِّ الوطني ذاته وتطوُّره ونُموِّه في جوٍّ من الاستقرار والطُّمأنينة والتَّعاون المتبادل» 18/2/1990 وفي ظلِّ النَّهضة المُتجدِّدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ فإنَّ رؤية «عُمان 2040» تضع المورد البَشَري في صُلب أولويَّاتها، وتسعى إلى بناء «مُجتمع مبدع، مبتكر، معتز بهُوِيَّته، وينعم برفاه مستدام». ومن هنا جاء التَّركيز على التَّعليم والتَّدريب والبحث العلمي والابتكار، بهدف إنتاج رأس مال اجتماعي وبَشَري وطني قادر على قيادة سُوق العمل وتحقيق أهداف التَّنمية. ثانيًا: الواقع السكَّاني وملفَّات التَّوظيف والتَّشغيل إنَّ أرقام الواقع تشير إلى الحاجة الماسَّة لتعزيز مسار التَّعمين، فقد تجاوز عدد الباحثين عن عمل حاجز (100) ألف باحث بنهاية عام 2024، في مقابل ارتفاع أعداد العمالة الوافدة في التَّركيبة السكَّانيَّة حيثُ تشير السَّاعة السكَّانيَّة حتَّى الـ(9) من يونيو 2025 إلى أنَّ إجمالي عدد الوافدين في سلطنة عُمان بلغ (2,297,191) وافدًا، ما يُمثل (43.31%) من إجمالي عدد السكَّان. وأنَّ عدد العاملين والموظفين غير العُمانيِّين في القِطاع الحكومي في الوظائف الدَّائمة للجنسيْنِ بلغ (21.651)، وأنَّ إجمالي الوافدين في وظيفة مديري الإدارة العامَّة والأعمال بنهاية مارس ٢٠٢٥ (96) ألف مدير وافد مسجلًا ارتفاعًا وقدره (20%) مقارنة بالفترة نفسها من عام، ويُمثِّل المشتغلون الوافدون في سلطنة عُمان في عام 2023 (68.6%) مقابل (31.8%) عُماني، وأنَّ (38.6%) من إجمالي شاغلي وظائف مديري الإدارة العامَّة في القِطاع الخاصِّ والعائلي عام 2023 هم وافدون، كما أنَّ (90.9%) من إجمالي شاغلي المِهن الهندسيَّة الأساسيَّة والمساعدة في القِطاع الخاصِّ والعائلي في عام 2023 هم وافدون، وتشير إحصائيَّات وزارة العمل بنهاية عام 2024 إلى أنَّ إجمالي القوى العاملة الوافدة في القِطاع الخاصِّ بلغ (2,035,529) مقابل (265,467) فقط من المواطنين العُمانيِّين. وتتركز النِّسبة الأكبر من هذه العمالة الوافدة في قِطاع الأعمال التجاريَّة، حيثُ بلغ عددهم (1,651,425) وافدًا، مُعْظمهم من دول جنوب وشرق آسيا، وتُهيمن على هذا القِطاع تحديدًا الجنسيَّات الآسيويَّة وبعض الجنسيَّات العربيَّة. هذا المؤشِّر يستدعي أهميَّة اعتماد إطار عمل وطني للتَّشغيل، واضح المعالم، محدَّد الأهداف، قابل للتَّطبيق، يراعي الخصوصيَّة العُمانيَّة، ويتفاعل مع الحالة الوطنيَّة، ويحافظ على درجة الانتماء والولاء والإنتاجيَّة للمواطن، كما يحافظ على سقف الفرص والتوقُّعات لدَيْه والثِّقة في قدراته، بعيدًا عن القرارات الارتجاليَّة والحلول التوقيعيَّة غير المدروسة أو المبادرات غير المضبوطة أو المقننة، أو تَبنِّي الأفكار غير المتناغمة مع الحالة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة حتَّى وإن كانتْ تُمثِّل توجُّهًا عالميًّا أو تجسِّد أحَد المفاهيم الحديثة في إدارة الموارد البَشَريَّة، ما يعني أنَّ تشغيل العُمانيِّين يَجِبُ أن يكُونَ من الثَّوابت الَّتي نؤمن بها ونسعى إِلَيْها، ونذلِّل كُلَّ الصِّعاب من أجْلِها؛ لأنَّها قضيَّة مستقبل وطن، ثمَّ إنَّها قضيَّة أمانة في أن يَعُودَ خير هذا الوطن لأبناء هذا الوطن في المقام الأوَّل، لذلك يُمثِّل تشغيل العُمانيِّين وإحلالهم مكان الوافد استحقاقًا وجوبيًّا في ظلِّ وجود المواطن الكفء وصاحب المهارة، فإنَّنا على ثقة تامَّة بأنَّ الشَّباب العُماني لدَيْه من الطُّموح والشَّغف والجديَّة والحكمة والاحترافيَّة وسرعة التَّعلُّم ما يُمكِّنه من تطوير قدراتهم ورفع كفاءتهم تدريجيًّا وهم على رأس عملهم، يبقى أن نمنحهم الفرصة ونحرص على إثرائهم بالخبرات والتَّجارب وصقلهم بالتَّدريب وأفضل الممارسات، وسوف ينطلقون في وظائفهم بشكلٍ محترف وبصورة طبيعيَّة، ما يؤكِّد في الوقت نفسه أنَّ على الحكومة والقِطاع الخاصِّ تحمُّل المسؤوليَّة من أجْلِ أن ينطلقَ سُوق العمل وينهضَ الاقتصاد بسواعد الشَّباب العُماني. وعَلَيْه، ونظرًا لِمَا يُمكِن أن يُشارَ إِلَيْه من أنَّ سُوق العمل بحاجة إلى مزيدٍ من الوقت والممكنات حتَّى يستطيع توليد فرص عمل تتناسب مع أعداد الباحثين عن عمل الَّذين يتزايد عددهم بسبب المخرجات السنويَّة للتَّعليم؛ يبقى المخرج لأزمة الباحثين عن عمل هو الإحلال التَّدريجي المستدام للعُماني مكان الوافد في إطار بناء سُوق عمل منتج يمتلك القوَّة والكفاءة والفاعليَّة، ويستثمر في المورد البَشَري العُماني، بحيثُ يتَّجه الإحلال في إطار تعمين الوظائف إلى توطين الصناعة وتعظيم وجود الصِّناعات التحويليَّة الَّتي تُسهم في تحريك وتنشيط حركة الاقتصاد بما توفره من أنشطة وبدائل وخيارات اقتصاديَّة أوسع، بحيثُ يَقُوم الشَّباب العُماني على إدارتها وتشغيلها وتنظيم سلاسل الإنتاج فيها عَبْرَ وجود مشاريع اقتصاديَّة ومصانع كبيرة استثماريَّة وتشاركيَّة من قِبل الدَّولة ورجال الأعمال، يَقُوم عَلَيْها الشَّباب العُماني في كُلِّ خطوط الإنتاج. على أنَّ مسألة الإحلال اللائق والمستدام الَّتي نؤكِّد عَلَيْها يَجِبُ أن تعالج في إطار المؤهلات والخبرات والتَّخصُّصات، وتراعي السَّمت العُماني والعرف الاجتماعي والثَّقافة المُجتمعيَّة، لا أن يكُونَ الإحلال فرض واقع جديد على الشَّباب العُماني القَبول به.
د.رجب بن علي العويسي