السبت 14 يونيو 2025 م - 18 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

العدول النحوي فـي القرآن الكريم أنماطه ودلالاته.. تغيير الحركة من فتح إلى ضم «1»

الأربعاء - 11 يونيو 2025 05:46 م
10

.. لا يزال الحديث مستمرًا حول العدول في القرآن الكريم، وصوره، وأنماطه، وحكمه، ودلالاته، ومراميه، ومقاصده، وهنا نعرض لتغيير الحركة من فتحة إلى ضم، ونرى أثر تلك الحركة عند تعديلها، ونحلل ما انطوى عليه هذا التغيير في السياق، ودلالاته الدعوية والفكرية؛ لنرى وجها من وجوه الإعجاز، ولونا من ألوان البلاغة القرآنية الرائعة، ونوقن أن هذا الكتاب العزيز نزل من لدن حكيم حميد. يقول الله تعالى:(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ، قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) (الأعراف 88ـ 89). وكان الحديث هنا في هاتين الآيتين عندما خاطبوا سيدنا شعيبًا ـ عليه السلام ـ وحده بفعل مؤكَّد بنون التوكيد الثقيلة، وهو فعل مفتوح الجيم (لَنُخْرِجَنَكَ) بالبناء على الفتح، والنون مباشرة، فقد هدَّدوه أولا في شخصه الشريف، ثم توجهوا إليه مزبدين، ومرعدين، ومتصورين أن تهديدهم سيُثنيه عن رسالته، وواجب دعوته، وظهر تدنِّي أخلاقهم عندما نادوه باسمه: (يا شعيب)، مع أنه نبي، يجب توقيره، وتقديره، وعلوُّ الصوت منهم قد وضح في تلك اللام في:(لنخرجنك)، ونون التوكيد الثقيلة، ومخاطبته بتاء الخطاب:(لنخرجنك يا شعيب)، كأنه صديقهم، وواحد مثلهم، فكانت الفتحة مبيِّنةً حجمَ الإهانة التي تفوَّهوا بها في وجه نبيهم، وبين يديْ رسولهم، فقد نهضتِ الفتحة؛ لتكشف عن حجم التهديد، وقوة الوعيد، المصحوب بالصوت الرعيب، والنظر الرهيب، والغلظ الشديد، والوجه الكئيب. وبعد أن هددوه في شخصه الشريف مباشرة، انتقلوا إلى تهديد كلِّ مَنْ آمن معه، فتحولت الفتحة إلى ضمة في دال الفعل:(لَتَعُودُنَّ)، فأصله:(تعودون) مسندا إليها نون التوكيد الثقيلة، وهي بنونين(نْنَ)، فقد جاءت النون هنا ثقيلة مؤكدة وهي تحتسب بنونين(نن)، فحذفت نون الرفع؛ لكراهة توالي الأمثال، فالتقى ساكنان: واو الجماعة، والنون الأولى من نوني التوكيد، فحذفنا النون المتحركة؛ لكراهة توالي الأمثال، فصارت الكلمة هكذا من: (تعودون+ نن)إلى:(تعودُوْ+ نْنَ)، ثم حُذفت واو الجماعة مع كونها هي الفاعل؛ وذلك لئلا يلتقي ساكنان، فصارت الكلمة:(تعُودُنْنَ)، ثم شُدِّدَتِ النونُ في النون، وضُمَّتِ الدال قبلها؛ إشارة إلى أن واوَ جماعةٍ كانت هنا، وحُذِفَتْ، وهذه الضمة تشير إليها، وتدل عليها، فالنون غير مباشرة؛ بسبب وجود ضمير واو الجماعة الذي حُذِفَ لالتقاء الساكنين، فتغيرت الفتحة في:(لنخرجَنَّك) إلى الضمة في:(لتعودُنَّ)، بضم الدال، فهذه الضمة خطيرة، خطيرة، ولها معنى جليل، جليل، هو أن شعيبا كان قد اجتهد، وتعب، وسهر، واستعمل كل ألوان التوعية، ووسائل الدعوة، وطرائقها: ليلًا ونهارًا، جهارًا وإسرارًا، مفردًا، وجماعة، وما ترك من وسيلة إلا خاضها معهم، واستعملها بكل هدوء، ووضوح؛ بدليل واو الجماعة، التي تبين حجم التعب، ومدى الجهاد، وتواصل السهر، والعمل حتى صاروا كثيرا يطلق عليهم، ويعبر عنهم بواو الجماعة، فيصح لنا تسميتها بـ(ضمة الاجتهاد، والعمل، والسعي، والجد)، حتى وصل عدد المؤمنين إلى رقم كبير، فالضمة قد نهضتْ لبيان حجم السهر، وسمو الروح، وكِبَرِ النفس التي لا تعرف الكلال، ولا يتطرق إليها الملال، فهي ضمة غاية في الجلال، وقمة في الكمال، وآية في الجمال، حيث الدعوةُ، وفنونُها، وحيث الكتابةُ، وألوانُها، وحيث الزياراتُ، وتعدُّدها، والوسائلُ، وتنوُّعُها، والأساليبُ، وتفصيلاتُها، فقد بيَّنَتِ تلك الضمة كلَّ ذلك، فكان العدل.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]