ما يجري في الأرض الفلسطينيَّة المُحتلَّة تجاوزَ كُلَّ احتمالات التَّحليل السِّياسي، ووصلَ إلى منزلقٍ سحيق من الإجرام الفجِّ الممنهج. فهذا الاحتلال باتَ يصنعُ تفجيرَ الأوضاعِ في كُلِّ بلدةٍ وقرية ومُخيَّم؛ غزَّة تنهار تحت وطأة القصف، والضفَّة تُسحق تحت أقدام المستعمِرِين، ونابلس تتحوَّل إلى مسرح للتَّصفية العلنيَّة، وجنين لا تعرف ليلًا ولا نهارًا منذُ اقتحامها الأخير، والمُخيَّمات في طولكرم تعيش على وقْعِ أنين الهدم والانتهاك والتَّهجير، والتَّوَسُّع الاستيطاني لم يَعُدْ سرقةً على استحياء، لكنَّه أضحى ابتلاعًا جشعًا لكُلِّ ما تبقَّى من جغرافيا فلسطينيَّة، تحت حماية السِّلاح، وبدعمٍ صريحٍ من المؤسَّسات الصُّهيونيَّة ومَن يَدُور في فلَكِها، لا أحَد يتحرك والخرائط الجديدة تُرسَم تحت الطَّاولات، دُونَ أن يرفَّ جِفنٌ للَّذين يتحدَّثون عن الشَّرعيَّة الدّوليَّة، والمسجد الأقصى يُمزَّق رمزيًّا كُلَّ يوم، ومقدَّسات الفلسطينيِّين تُعامَل كأوراق مساوَمة، بَيْنَما يتصاعد الرُّعب في كُلِّ بيت فلسطيني، دُونَ أنْ يقرعَ ضميرُ العالَمِ أجراسَ الخطر. حين يتحدَّث سفير أميركي وكأنَّه ممثِّل شخصي لمجلس المستوطنات، فإنَّنا لم نَعُدْ أمام دبلوماسيَّة مائلة، بل أمام انحراف تامٍّ عن الحدود الأخلاقيَّة والسِّياسيَّة! فما قاله مايك هاكابي لم يكُنْ زلَّة لسان، إنَّما كان تمثيلًا حقيقيًّا لمنظومة كاملة قرَّرتْ دعم الاحتلال حتَّى آخر قطرة دم فلسطينيَّة، هذا الرَّجُل لم يكتفِ بالتَّشكيك في حلِّ الدَّولتَيْنِ، بل سخرَ من أصلِه، وحوَّل نَفْسَه إلى بُوقٍ يردِّد خرافات دينيَّة متطرِّفة تُستخدم كمبرِّر لتشريدِ شَعبٍ كامل.. إنَّ خطورة تلك التَّصريحات أنَّها خرجتْ في سياق رسمي يظهر أنَّ هناك أطرافًا داخل الإدارة الأميركيَّة مستعدَّة لتبرير الاستيطان، ولتقديم تبريراتٍ دينيَّة منحرفة لسياسات التَّطهير والضَّم، هذا النَّوع من الخِطاب لا يُثير الجدل فحسب، لكنَّه أيضًا يزرع فتيلًا جديدًا في قلبِ المنطقة، ويسقط آخر أوراق التُّوت عن حياديَّة أميركا المزعومة؛ لذا فالسُّكوت أمام هذه التَّصريحات جريمة أخلاقيَّة؛ لأنَّه يُسهم في منح الاحتلال غطاء إضافيًّا لمواصلة ذبحِه المكشوف على مرأى من الجميع. وفي ظلِّ هذه العتمة يأتي إعلان بريطانيا عن فرض عقوبات على مسؤولين في حكومة الاحتلال كضوءٍ يشعل بعض الأمل، لكنَّه حتَّى اللَّحظة يبقَى في خانة ردود الفعل الباردة الَّتي تُحاول إنقاذ ماء الوَجْه أكثر من إنقاذ ما تبقَّى من حياة في غزَّة أو كرامة في الضفَّة. فالشَّعب الفلسطيني لا يحتاج إلى عبارات منمَّقة حَوْلَ احترام القانون الدّولي، لكنْ يحتاج إلى قرارات موجِعة تُوقِف شحنات السِّلاح، وتُجمِّد التَّعاون العسكري، وتَضعُ حدًّا فعليًّا للتَّعامل مع مُجرمِين يحاكمون الشُّعوب بدلًا من أنْ يحاكمَهم العالَم، أنْ يُترَكَ رئيس حكومة متَّهم بارتكاب جرائم حرب يصول ويجول في العواصم وكأنَّه رجُل دَولة محترم، هو إهانة للعدالة قَبل أنْ يكُونَ دعمًا للقتل. المطلوب اليوم من لندن ليس خطوةً رمزيَّة، بل حزمة شاملة تُخرج الاحتلال من نطاق التَّعامل الدّولي الطَّبيعي، وتُعِيد تعريفه بما هو عَلَيْه فعلًا نظام عنصري يمارس الإرهاب المنظَّم، وفي الوقت ذاته تُكفِّر عن ذَنْبها التَّاريخي. وإن لم تتَّخذْ أوروبا خطوات بهذا الاتِّجاه، فهي شريكة، بكُلِّ ما تحمله الكلمة. لا أحَد في هذا العالَم يملك حقَّ التَّجاهل بعد الآن، كُلُّ مَن رأَى الصُّوَر القادمة من رفح، كُلَّ مَن سمعَ بكاء الأطفال تحت الأنقاض، ثمَّ قرَّر أنْ يكتبَ بيانًا معتدلًا، أو أنْ يعقدَ مؤتمرًا خجولًا، هو مشارك في الجريمة، فالدَّم لا يحتاج إلى مفاوضات، والمجازر لا يُعبَّر عَنْها بعبارات مِثل ضبط النَّفْس، فعِندَما تُباد عائلات كاملة في دقائق، وعِندَما تتحوَّل المستشفيات إلى مقابر، لا يبقَى هناك محلٌّ للحديث عن التَّوازن أو الفرص السِّياسيَّة..! مَن يسأل الفلسطينيِّين اليوم عن (العمليَّة السِّلميَّة) يُشبه مَن يسأل الضحيَّة عن سببِ مقتلها. للأسف العالَم اختار أنْ ينامَ في حُضن القاتل، وأنْ يغضَّ الطَّرف عن المجازر، وأنْ يُساوِمَ على جُثث الأطفال في سُوق المصالح، لكنَّ فلسطين ليسَتْ رقعةً قابلة للتَّمزيق، ولا شَعبها مادَّة خام لتجارب القمع، والقضيَّة الفلسطينيَّة اليوم تختبر مجدَّدًا أمام الإنسانيَّة كُلِّها، ومَن لا ينحازُ للحقِّ الآن، فلا يحقُّ له يومًا أنْ يتحدثَ عن العدالة أو الكرامة أو حقوق الإنسان.