أدَّت التَّغيُّرات السِّياسيَّة شِبه الجذريَّة في كثير من الدوَل الَّتي توصف بأنَّ بها «ديموقراطيَّة راسخة» إلى إعادة كثيرين النَّظر في موضوع «الديموقراطيَّة التَّمثيليَّة» كوسيلة فُضلى للإدارة السِّياسيَّة في المُجتمعات المختلفة. لكن تظل المُشْكلة الأساسيَّة أنَّ العالَم لم يطوِّرْ بعد بديلًا للانتخابات كوسيلة لاختيار مَن يحكمون أو يتولون المناصب العامَّة في أيِّ بلد. بدأ تراجُع الديموقراطيَّة ـ إذا صحَّ التَّعبير ـ منذُ نهاية ثمانينيَّات القرن الماضي مع بداية تركُّز السِّياسة في «المنتصف» وتضاؤل الفارق بَيْنَ اليمين واليسار التَّقليدي. بالنِّسبة للجمهور العام، وحتَّى المهتمِّين بالعلوم السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، أصبح من الصَّعب شيئًا فشيئًا التَّمييز بَيْنَ الأحزاب الرَّئيسة المختلفة الَّتي كانتْ من قَبل تتباين مبادئها وبرامجها على أساس تقسيم ثلاثي تقريبي: يمين ووسط ويسار. إذ تحوَّل اليمين متبنيًا بعض السِّياسات الاجتماعيَّة إلى يمين الوسط وتحوَّل اليسار متبنيًا سياسات تُحابي الأعمال على حساب الطَّبقة العاملة إلى يسار الوسط، وتاهتْ ملامح الوسط في ذلك التَّحوُّل المستمر منذُ العَقدَيْنِ الأخيرَيْنِ من القرن الماضي. مع اتِّجاه الطَّبقة السِّياسيَّة كُلِّها تقريبًا في أغْلَب بُلدان ما يُسمَّى العالَم المتقدِّم نَحْوَ الوسط تركتْ هوامش الحياة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة لبروز تيَّارات متطرِّفة على الجانبَيْنِ: يمين متطرِّف (عنصري أحيانًا) ويسار متطرِّف (يُسمِّيه البعض نيوليبرال). لم تَعُدِ الانتخابات في أغْلَب البُلدان تجري على أساس خيارات واضحة ومتميزة متاحة أمام الجمهور العريض ليختارَ مَن يُمثِّله على أساس برامج ومبادئ وسياسات متوقعة واضحة المعالِم. وأصبح التَّصويت في الانتخابات والاستفتاءات وغيرها يجري على أساس تصريحات آنيَّة، في أغْلَبها دعايات جوفاء لا تصمد لبرهة بعد العمليَّة الانتخابيَّة. كما بدأتْ عمليَّات توجيه الرَّأي العامِّ من خلال حملات التَّزييف والتَّلفيق عَبْرَ الإنترنت وباستخدام وسائل التَّواصُل تؤدي دَوْرًا واضحًا في نتائج الانتخابات. صحيح أنَّ الدِّعاية والتَّصريحات الإغرائيَّة الَّتي لا تستند إلى واقع كانتْ موجودة من قَبل في الحملات الانتخابيَّة للمرشَّحِين للمناصب العامَّة، لكن تأثير ذلك لم يكُنْ هائلًا كما هو الآن في ظلِّ سهولة الوصول لملايين الجماهير من خلال تطبيقات على هواتفهم الذَّكيَّة وأيضًا مع اعتماد النَّاس العاديَّة أكثر فأكثر على الإنترنت في المعرفة وتكوين الرَّأي السَّريع بِغَضِّ النَّظر عن أيِّ دقَّة أو مصداقيَّة. تضافرتْ هذه العوامل مع حالة «السيولة» الَّتي يمرُّ بها العالَم منذُ نهاية الحرب الباردة ومحاولة الغرب التسيُّد من خلال تشكيل «نظام عالَمي جديد» لم يحدُثْ حتَّى الآن. وأصبح التَّصويت في الانتخابات في أغْلَب الأحيان إمَّا متأثرًا بالدِّعاية والتَّلفيق الإلكتروني أو تصويتًا احتجاجيًّا وليس مبدئيًّا، بمعنى أن تصوِّتَ قِطاعات واسعة من الجماهير ضدَّ الحزب الحاكم احتجاجًا على سياساته في فترة حكمه الَّتي لم تحققْ لهم المنافع الَّتي توقَّعوها. وليس بالضَّرورة لصالح طرف آخر يرون أنَّه سيُحقق لهم ما يرجونه. وتكُونُ النَّتيجة أن يصعدَ إلى الحُكم والمناصب العامَّة مَن هم ليسوا أهلًا للإدارة السَّليمة وينتهي الأمْر بالتَّصويت الاحتجاجي ضدَّهم في الانتخابات التَّالية وهكذا. فتَح كُلُّ ذلك نقاشًا منذُ فترة حَوْلَ تراجع الديموقراطيَّة التَّمثيليَّة، أي انتخاب ممثِّلين عن الشَّعب في برلمانات تختار السُّلطة التَّنفيذيَّة وتراقب عملها وتقرُّ القوانين والسِّياسات. لم يصلْ هذا النِّقاش إلى نتائج، بمعنى أنَّه رغم الاقرار بأنَّ الديموقراطيَّة التَّمثيليَّة ـ أي الانتخابات والبرلمانات ـ لم تَعُدْ وسيلةً مُثلى لضمان الحُكم السَّليم إلَّا أنَّه ليس هناك من بدائل ولا حتَّى تفكير في بدائل أو طرح تصوُّرات لحلول. ممَّا جعل ذلك النِّقاش يبدو غير ذي جدوى أكثر أنَّه في السَّنوات الأخيرة أفرزت الانتخابات في البُلدان «الديموقراطيَّة» صعود تيَّارات تكاد تكُونُ من الهامش السِّياسي والاجتماعي. صحيح أنَّه في النِّهاية اختار النَّاخبون هؤلاء، لكنَّهم بمجرَّد وصولهم إلى السُّلطة أصبح هدفهم الأساس النَّيْل من الآليَّة الَّتي جاءتْ بهم إلى الحُكم. وبدأنا نشهد حملات من السُّلطة التَّنفيذيَّة على بقيَّة السُّلطات التَّشريعيَّة والقضائيَّة والصِّحافة والإعلام وغيرها في توجُّه نَحْوَ «الحُكم المُطْلق» أو ما اعتاد الغرب أن يصفَ به العالَم الَّذي يَعدُّه أقلَّ تَقدُّمًا من مصطلحات كالديكتاتوريَّة وحُكم الفرد وما شابَه. فلدَيْنا الآن في أكبر دَولة في العالَم، الولايات المُتَّحدة، رئيس يحكم بالأوامر التَّنفيذيَّة (الَّتي تُشبه الفرمان في عصور الإقِطاع الاقتصادي والسِّياسي) ويتغول على القضاء والصِّحافة بعدما ضمنَ السُّلطة التَّشريعيَّة حيثُ يهيمن حزبه الحاكم على الكونجرس (البرلمان). يتكرر هذا المثال في بؤر أخرى حَوْلَ العالَم من المجر إلى بولندا الآن بعد فوز رئيس متطرِّف القوميَّة. صحيح أنَّ كُلَّ هذا التَّغيير يحدُث في العالَم الموصوف بأنَّه متقدِّم، لكن بقيَّة العالَم ليس بعيدًا عَنْه. وإذا كان بعض المُغالين اتَّهموا في السَّابق بلادًا مثل ما في منطقتنا بأنَّ شعوبها «ليسَتْ مؤهَّلة للديموقراطيَّة» بعد فإنَّ هذا يفقد معناه الآن مع تدهوُر الديموقراطيَّة في بلادها أصلًا وفقدان الثِّقة فيها كوسيلة للحُكم الرَّشيد. هل ينظر العالَم الآن إلى نُظم مختلفة مثل ما في الصِّين الَّتي تجمع ما بَيْنَ مركزيَّة الحزب الواحد وانتخاباته الدَّاخليَّة وتوازن السُّلطة الواسعة للرَّئيس مع أقطاب اللَّجنة المركزيَّة للحزب؟ أم أنَّ نُظم حُكم تقليديَّة تطوَّرتِ مع الوقت، مثل نظام الشُّورى مثلًا، يُمكِن أن يكُونَ بديلًا للتَّمثيل المُجتمعي في الحُكم؟ لننتظر ونرَى!
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري