قراءة فـي المجموعة القصصية «رماد البنفسج» الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي فـي دورتها 27 للكاتبة التونسية شريفة بدري
(إذا صادفتكم هذه القصة مسموعة أو مكتوبة، فاعلموا أن أحدا ما غيري قام بنشرها، فقد تراجعت عن ذلك لأسباب ستعرفونها بعد قليل) لا بد أنكم الآن تفكرون بتلك الأسباب التي جعلت الكاتبة تتراجع عن نشر قصتها، وهو ذاته ما أرادته عندما ابتدأت إحدى قصص مجموعتها بهذه الفقرة، ثم واصلت السرد عبر تقنياتها، التي تدل على ذكاء الكاتب العارف بنفس القارئ، وما يستفزها، ويسهل من السيطرة عليها لتبقى قابضة على الكتاب بكلتا يديها حتى تنتهي منه، فهي تعرف ولا بد أن أكثر ما يحفز القارئ على قراءة أي عمل أدبي سطره الأول. وهو ما نجحت شريفة فيه إلى درجة أنني كنت أكمل قراءة القصة بمجرد وقوع عيني على الأسطر الأولى منها، وبفضول القارئ «الكاتب» أجد عيني تذهب إلى أسطر القصة التالية بمجرد انتهائي من القصة التي أقرأها، بعد أن تستفزني نهايتها، وأتساءل مع نفسي: هل كتبت القصة التالية بنفس التقنية؟ إن كانت نجحت في واحدة ثم اثنتين وثلاث، فهل ستنجح في الاثنتي عشرة قصة جميعها التي احتوتها المجموعة؟ أيعقل أنها ذكية سرديًّا إلى هذا الحد؟ هذه التساؤلات، وهذا الفضول جعلاني أنهي المجموعة القصصية في يوم واحد، وهو زمن قياسي بالنسبة لي. ربما ساعدني على ذلك قِصر المجموعة، وتكثيف السرد والأحداث في قصصها، وكأن الكاتبة لم تكتب كلمة إلا وهي تعلم أن تلك الكلمة ركن هام من أركان قصتها. ولأن النهايات مهمة كالبدايات في أي عمل أدبي جاءت النهايات في كل القصص مفاجئة وغير متوقعة، ولنتبين ذلك أكثر سأترك بين أيديكم بداية قصة (هزائم غير معلنة) التي ابتدأت بقولها: (تكرهينها حد الرغبة في القتل، ولا ترين وجودها في حياتك غير باب ريح، تتربصين بها، تقصين أجنحة كلماتها وتبترين أطرافها، تفعلين ذلك بلا سبب واضح في أغلب الأحيان) وتنهي القصة ذاتها بقولها: (تعودين إلى غرفتك دون أن تخبري أحدا أن المرأة التي طُعنت للتو أنتِ). إن ما اتبعته شريفة يتفق عليه أغلب النقاد إن لم يكن كلهم في تحديد عنصر مهم من عناصر نجاح القصة، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره يوسف الشاروني في كتابه: القصة تطورًا وشغفًا عن ادجار آلان بو أن بداية القصة تحدد نجاح القصة أو فشلها، مؤكدًا في الكتاب نفسه أن النهاية لا تقل أهمية عن البداية، مشبهًا إياها باللمسة الأخيرة التي تمنح للقصة لتكتمل. هذا الأمر يفسر فوز المجموعة بالمركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال القصة القصيرة، فكما ذكرت آنفًا أن الكاتبة لا تنفكّ تمسكنا من أعيننا، ولا تُفلتنا إلا بعد أن ننهي القصة لنتنفس الصعداء، أو هكذا نرجو ولا يحدث فعلًا بسبب النهايات غير المتوقعة، ويبدو أن هذا ما فعلته بالضبط مع لجنة التحكيم، ولعلي أضع هنا مقطعا آخر من قصة حقيبة طرقات لتتضح لنا آليتها السردية: (منذ ذلك اليوم وأنا أجمع الطرقات، المعروفة وغير المعروفة، وحتى التي لم توجد في الخريطة بعد. أستيقظ كل يوم خفيفة كريشة. أضع حقيبة كبيرة على ظهري وأتسلل إلى الخارج، وأبدأ في ممارسة هوايتي. أتنقل بين المدن والأقاليم بسرعة الضوء. أطوي الأزقة الواحد تلو الآخر كأنني أطوي بساطاً، ثم أخبئها في حقيبتي. أسحب الشوارع بيسر من تحت أقدام المترجلين وعجلات السيارات والقطارات. أضحك وأنا أرى الناس يسقطون ويتكدسون فوق بعضهم كالدمى، ووسائل النقل تتبعثر كألعاب صغيرة. لم أكن أسمع أصوات الارتطامات ولا نداءات الاستغاثة. لا أرى دما أو أعضاء مبتورة ولا سيارات مهشمة. لا أسمع أنيناً أو صراخاً أو احتجاجاً. كان كل ذلك يحدث في هدوء كأنني أمام تماثيل من ورق. ولم أشعر بالندم للحظة واحدة ولم أرَ ضرورة للاعتذار.) نقرأ كل هذا ثم تفاجئنا بنهاية تجبرنا على الالتفات للخلف للتأكد مما قرأناه حين تقول: (أطفئ الوقت في ليل الجنوب بعد أن ألقي نظرة غاضبة من النافذة على قريتي الساكنة التي لم أغادرها قط.) احتوت المجموعة اثنتا عشرة قصة حملت عنوان إحداها، ولربما أكثر ما يلفت في تلك العناوين أنها فضحت قلق الكاتبة، وروحها الشعرية والمتأملة في هذا الكون بدءًا من الإنسان إلى الحيوان والنبات والجماد أيضًا، فمن ذا الذي قد يفكر بحقيبة الطرقات، أو بالمصابيح التي أصابها العمى؟! إن هذا القلق الوجودي بدا واضحًا في السرد القصصي لا في العناوين فقط رغم أنها أراداتها مستفزة للبحث عن أسرارها، فلا يمكن للقارئ ألا يفكر في ماهية (الأقفاص) التي عنتها الكاتبة في تلك القصة، ولا (تهمة السدرة)، أو إحساس ذلك الـ (فائض عن الحاجة)، ولا بد أنها قصدت أن تربكنا بـ (رسالة عاجلة) بين طيات قصصها، وهو ما نجحت فيه فعلا. إن الاختيار الدقيق للعناوين أمر مهم، فالعنوان بوابة القارئ إلى النص، أو كما وصفته د. دلال عنبتاوي في كتابها: بين أروقة النقد (العنوان هو القصة والقصة هي العنوان، وهما يسيران في شكل متواز، إذ لا يمكن أن نعتبر العنوان ثانويا أو ملحقا بالنص. إنه البوابة التي تُدخل القارئ إلى متن المُنجز القصصي، ولهذا ينبغي على الناقد تناول عتبة العنوان قبل متن النَّص، وأن يحذر عتبة العنوان لكي لا يسقط في فخ القاص ومكره، لأنه إذا لم يضبط إيقاع العنوان فإنه يتوه في فضاءات القصة، وتنفلت من بين يديه، وحينها يكون ظالمًا للقاص وللعمل القصصي، لأنه سيضطر إلى تقويل النص ما لا يريد قوله. وعندما نقول إنَّ العنوان هو نص مواز للمتن القصصي، فإنَّنا لا نعني بذلك وصفه بالتقرير والمباشرة المفرطة التي تفضح النَّصَّ وتكشف جماليته، وإنما نقول ذلك لنبين مدى الارتباط والصلة التي تجمع بين العنوان والنص، لأنهما يؤديان وظائف مشتركة). إن ما ذكرته د. العنبتاوي بدا واضحًا في اختيار الكاتبة لعناوين قصصها الاثنتي عشرة، فتركت القارئ أمام هذه العناوين: (رهاب المرتفعات، أقفاص، غيمات، بقايا أجنحة، تهمة السدرة، حقيبة طرقات، فائض عن الحاجة، فلّين، رماد البنفسج، عمى المصابيح، رسالة عاجلة، هزائم غير معلنة)، وهو ذاته ما جعلني أختار مقطعًا من إحدى قصص المجموعة أعنون به قراءتي الانطباعية حولها، متفقة مع الكاتبة أن (فقر الدم أهون من فقر اللغة). القارئ للمجموعة سيرى الإنسان في كل مكان، ولكنه سيرى أيضًا تونس، بتفاصيلها الخاصة، كأسوار التين الشوكي التي تحيط بالمزارع في سيدي بو زيد (مسقط رأس الكاتبة)، فاصلة بين مزرعة وأخرى، دون حاجة من المزارعين لنصب الجدران أو الشباك حول حدود مزارعهم، كما سيتذكر طفولته وهو ينصب المصائد للعصافير إن كان من أبناء المزارع مثلي، حيث تقول الكاتبة (نضع الحَب ونرفع الشبكة بواسطة عود، ونربطه بحبل يمسك أحدنا بطرفه بعد أن نختبئ في المخبأ الذي جهزناه للغرض وغطيناه بالأغصان، ثم ننتظر بصبر.)، فقد جعلتني هذه المصيدة أتذكر طفولتي، مستحضر المصيدة ذاتها التي ينصبها أخوتي للعصافير لتقع في قبضتهم، لأكتشف أن البشر في كل مكان في هذا العالم حين يتصرف بفطرته يقوم بالأفعال ذاتها. مجموعة (رماد البنفسج) هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة التونسية شريفة بدري، وقد صدرت في العام 2023م عن دائرة الثقافة بالشارقة، بعد فوزها بجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها السابعة والعشرين. جدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تفوز بها الكاتبة بهذه الجائزة، فقد فازت بها سابقًا في فرع أدب الطفل عن مجموعتها نداء الصفصافة، كما فازت بجوائز أخرى على المستوى العربي منها على سبيل المثال جائزة قصص على الهواء، كما تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة الهيئة العربية للمسرح الموجهة للأطفال (زائر من ورق)، وهناك الكثير من الجوائز المحلية نالتها في مجال الشعر أذكر منها: جائزة أيام قرطاج الشعرية وجائزة القصيدة الوطنية ببيت الشعر بالقيروان، وغيرها الكثير.
