الحديث عن السِّياحة في سلطنة عُمان اليوم لا يُمكِن فصله عن الجهود المتراكمة الَّتي بدأتْ منذُ سنوات، حين وضعتِ الدَّولة هذا القِطاع على خريطة التَّنويع الاقتصادي بشكلٍ منهجي، ولم يكُنِ الطَّريق سهلًا، فالعمل تمَّ في هدوءٍ، والخطط جرَى إعدادها وسط تحدِّيات داخليَّة وخارجيَّة، لذا فما نراه اليوم هو نتيجة تلك الرُّؤية البعيدة الَّتي قرَّرتْ ألَّا تعتمدَ على النِّفط وَحْدَه، وفتحتِ الباب أمام موارد أخرى، وعمدتْ إلى تطوير السِّياحة دُونَ الاعتماد على التَّرويج فقط، لكن عَبْرَ مشروع تنموي دخل في عُمق الاقتصاد، وبدأ يُعِيد تشكيل خريطة العوائد، فما تحقَّق حتَّى الآن يُحسب للدَّولة، وللشَّراكة بَيْنَ الحكومة والقِطاع الخاصِّ، ولمُجتمع بدأ يعي دَوْره. من تحسين البنية الأساسيَّة إلى إطلاق التَّأشيرات الإلكترونيَّة، ومن تطوير الموانئ والمطارات إلى الاهتمام بالتَّرويج الخارجي، هناك منظومة تأسَّستْ على مدار عقدٍ كامل، والنَّتائج الحاليَّة ليسَتْ وليدةَ صدفةٍ، لكن ثمرة عمل تراكمي بدأ يؤتي ثماره، وكُلُّ ريال يُجنى اليوم كان له ما يسبقه من تخطيط واستثمار ووعي بضرورة الخروج من أسْرِ الاقتصاد الأحادي. وتُشكِّل الفنادق العُمانيَّة والنُّزل أساسَ تلك النَّهضة الَّتي شهدها قِطاع السِّياحة، فلم تَعُدْ مجرَّد مبانٍ تستقبل الضُّيوف، بل أدوات حيويَّة لإعادة توزيع الثَّروة بشكلٍ أُفقي على المحافظات، خصوصًا مع اعتماد الدَّولة على اللامركزيَّة الإداريَّة. فالتَّطوير الَّذي شهدَه قِطاع الإيواء خلال السَّنوات الأخيرة أضحى ضرورةً اقتصاديَّة، حيثُ الفكرة لم تكُنْ فقط في استقبال سائح، ولكن في إيجاد دَوْرة نقديَّة تشمل طيفًا واسعًا من العاملِين والمورِّدَين والمُجتمعات، وحيثُ كُلُّ نزيل يُقِيم في غرفة يعني عملًا لعشراتِ الأشخاص بدءًا من عامل الغرفة، إلى السَّائق، إلى المزارع الَّذي يورِّد الفاكهة، إلى الحِرفي الَّذي يبيع تذكارًا بسيطًا، كذلك النَّقل السِّياحي تحوَّل من خدمة ثانويَّة، إلى قِطاع يرتبط بإيجاد فرص عمل وتشجيع الاستثمار في المناطق الَّتي لم تكُنْ على خريطة النَّشاط الاقتصادي من قَبل.. هذا الاتِّساع في دائرة الاستفادة لم يأتِ من فراغ، وإنَّما نتيجة لرؤيةٍ بدأتْ تعترف بأهميَّة إشراك المواطن في الفائدة. والمشاريع الَّتي وضعتْ في الجبل الأخضر، ومناطق أخرى في مسندم وظفار وغيرهما، كُلُّها دلائل على أنَّ التَّنمية السِّياحيَّة أخذتْ طابعًا وطنيًّا متكاملًا، لا يركِّز على العاصمة وَحْدَها. إنَّ الأرقام الرَّسميَّة حَوْلَ أداء الفنادق العُمانيَّة بَيْنَ يناير وأبريل 2025 تؤكِّد أنَّنا أمام نقلة حقيقيَّة، فالإيرادات الَّتي تجاوزتْ (109) ملايين ريال بنسبة نُموٍّ (17.3%) لا تأتي عبثًا، لكنَّها تعني أنَّ هناك طلبًا متزايدًا على المنتَج السِّياحي المحلِّي، وأنَّ الأسواق الخارجيَّة بدأتْ ترَى في سلطنة عُمان خيارًا مستقرًّا وواعدًا، كما أنَّ ارتفاع عدد النُّزلاء إلى أكثر من (831) ألفًا، وزيادة نسبة الإشغال إلى (61.1%)، تُعَدُّ مؤشِّرات على تطوُّر حقيقي. واللافتُ أنَّ هذا النُّمو جاء من أسواق متنوِّعة من أوقيانوسيا إلى إفريقيا، ومن الخليج إلى الأميركتيْنِ، ما يعكس اتِّساع دائرة الجذب. مع ذلك، انخفاض بسيط في عدد النُّزلاء المحليِّين والعرب يدعونا للتَّأمُّل، فهل أصبح المنتَج مُوَجَّهًا أكثر للسَّائح الأجنبي؟ وهل الأسعار تُناسِب الزوَّار الإقليميِّين؟ الأسئلة مشروعة والإجابات يَجِبُ أنْ تكُونَ جزءًا من تطوير السِّياسات.. فالأرقام مبشِّرة، لكنَّها لن تكُونَ نهايةَ الطَّريقِ، بل بداية مرحلة تحتاج إلى قراءة أعمق، وتخطيط يُواكِب تنوُّع الزَّبائن، وطموح السُّوق في الحفاظ على وتيرة النُّمو. النَّتائج الَّتي تحقَّقتْ في القِطاع السِّياحي خلال السَّنوات الأخيرة لا يُمكِن إنكارها، لكن من الخطأ الافتراض أنَّ الطَّريق صار مضمونًا. فالمنافسة عالَميًّا وإقليميًّا ستظلُّ شرسة، والخيارات أمام السَّائح كثيرة والمُجتمعات من حَوْلِنا تتحرك بسرعةٍ لِتضمنَ لِنَفْسِها مكانًا في خريطة السِّياحة العالَميَّة، لذلك فإنَّ المطلوب الحفاظ على ما تحقَّق، واستثماره لتوسيع القاعدة، وإدخال مزيدٍ من الفئات إلى دائرة العائد.. فتجربة السَّائح لا تبدأ من المطار فقط، وإنَّما من لحظة البحث عن الوجهة ومن سهولة الحجز، ووضوح المعلومات، ومرونة الأسعار، كما أنَّ استدامة النُّموِّ تتطلب دمج المُجتمعات المحليَّة بطريقةٍ أعمق، لا كشركاء موسميِّين، بل كجزء من الهُوِيَّة الَّتي تُقدَّم للعالَم. إنَّ هناك جهودًا تُبذل من الحكومة، وخططًا تُراجَع باستمرار، وهذه نقطة قوَّة، لكنَّ الرِّهان اليوم يَجِبُ أنْ يكُونَ على إيجاد تجربة تُبقي عُمان في ذاكرة الزَّائر بعد رحيله، وتجعل العودة إِلَيْها خيارًا قائمًا، لا مناسَبة عابرة. هذا هو التَّحدِّي الحقيقي، وهنا تكمن أهميَّة الانتقال من مرحلة البناء إلى مرحلة التَّثبيت والارتقاء.