أجلس في مكتب متواضع، حيث الأوراق المكدسة فوق بعضها البعض، تمر الأيام متشابهة الملامح، رتابة الأيام تنخر في مسار حياتي، وتغلفه بطبقة من البلادة التي تتسلل خفية إلى مسامات جسمي وتغزوه في حرب أقف أمامها وحيدة معزولة تائهة بلا سلاح ولا عتاد. اليوم أنظر إلى الأوراق التي طالما قلبتها بلا مبالاة، أحدق في أطرافها الحادة، وأركز في الكلمات التي خطت بتنسيقات مختلفة، أتنفس بهدوء وأصمت. أرجع بظهري ليلامس الكرسي الأسود، تنتابني حالة من الضيق والكسل، أشعر بالحرارة رغم صوت المكيف الذي يبعث دفقات من الهواء البارد في أرجاء المكتب. أصوات الصيف القادمة من خلف الباب تثير حنقي تجعلني أفقد أعصابي، أمسك بالأوراق المكدسة، ثم أضعها بعنفي في الدرج المفتوح أمامي. أتنهد وأنا أرمق النافذة المقابلة لي، أتتبع تحركات البشر الذين تعكس وجوههم نظرات الحسرة والاستعجال والإحباط. أرمق مرة أخرى الدرج الذي تخرج منه بعض الأوراق بشكل عشوائي، أسترجع صورة ملابسي المكدسة في الدولاب بشكل عشوائي. يزورني صوت أمي المتحسر: متى بترتبي ثيابك؟ يظل سؤالها معلقًا في سقف غرفتي، كما ظلت أسئلة كثيرة معلقة في فضاء حياتي. أشعر بالعطش أتناول زجاجة الماء، أجرع منها عدة جرعات متتالية خففت من وطأة الجفاف الذي غزا حلقي. انتابني شعور بالجوع ترافق مع جرعات الماء التي شربتها، عندها زارتني روائح الطعام التي تعدها أمي، طعمها الذي يبقى ملتصقًا بفمي، تذكرت كلمتها الدائمة والتي علقت في سقف مطبخنا دون جواب: متى بتتعلمي الطبخ؟ يبدو أنني لم أتعلم الكثير، رغم مهارة أمي في الكثير من الأمور الحياتية، كنتُ الرماد الذي خلفته النار والذي طار بلا هدى في متاهات الحياة المتشابكة. رمقتُ الحاسوب الجاثم على طاولة مكتبي، ودققتُ في شبكة الإنترنت الضعيفة التي تأتي على خجل وتهرب بلا عودة، شعور بالنعاس هجم عليّ بعد تناولي وجبتي المكونة من الخبز والجبن، لم أحاول التحرك اليوم، شعور بالوهن والتعب بدأ يسري في أوصالي، بينما صورة أمي اليوم تكبر لتذكرني بأشياء كثيرة رحلت من الحياة، ورحلت معها تفاصيل كثيرة ارتبطت بروحنا وقلوبنا. ظل بيتنا ناقص الأركان بعد رحيلها، كما ظلت كل تلك الأسئلة التي كانت تطرحها كامنة في أعماق ذاكرتي، ربما لأني لم أبحث لها عن جواب أو فعل يتناسب مع فحواها آنذاك. كبرت عدة سنوات دفعة واحدة، هاجم اللون الأبيض أجزاء كبيرة من شعري، وبقيت أسئلة أمي معلقة تنقض علي في أوقات متباينة؛ لتشعرني بأن لم أكن البنت التي تمنتها في حياتها. اتجهت نحو زجاجة الماء مرة أخرى شربت منها دون أن أشعر بالعطش في حركة تلقائية، أمسكت بقلم الحبر رسمت مجموعة من الأشكال العشوائية في ورقة سجلت عليها مجموعة من الملاحظات، الحرارة تزايدت في داخلي في هذه اللحظات، تركت الكرسي، تحركت في الممر بلا هدف، كانت سياط الصيف في الخارج تلسعني وتزيد تعبي وإرهاقي. الممر الذي أسير عليه الآن يشبه حياتي التي تسير بلا هدف في طريق بلا ملامح. أنثر مجموعة من الابتسامات في الوجوه العابرة من حولي، الإحساس بالوهن أصبح طاغيًا في هذه اللحظات، غسلت وجهي بالماء، كانت قطرات الماء وهي تتساقط تصدر صوتًا رتيبًا ترافق مع أصوات الصيف المتواصلة من حولي. أصوات العصافير تتزايد من حولي تذكرني بطفولة ذكرياتها مهزوزة الركض في طرقات الحارة، الوجوه التي غادرت بلا رجعة، تسارع لحظات الحياة من حولنا، الأيام التي تتشابه في معظم تفاصيلها، الجمود الذي بدأ منذ سنوات وتزايد خلال هذه الأيام، وأصبح يحبسني في شرنقة ضيقة خالية من الهواء والأمل. الشعور بالإرهاق دفعني إلى العودة إلى أجواء المكتب، خطواتي أصبحت أكثر بطئًا، وصلت للمكتب تداخلت الحرارة التي غزتني مع هواء المكيف البارد الذي لسع وجهي، جلست على الكرسي، فتحت الجهاز شعرت بالملل والوحدة رغم كمية الأصوات الكثيرة المنبعثة من حولي والصادرة من الممر المقابل لمكتبي. كل تلك الأصوات المتراكمة لم تفلح في إخراجي من دائرة الضوضاء التي سكنت داخلي، تداخلها زاد من حجم الأفكار التي تناوبت على ذاكرتي في هذا اليوم الحار، صوت أمي، أوراق عملي التي تطل من مكتبي، الروتين الذي يقض مضجعي، والحرارة التي تتزايد، ويتزايد معها حزني ويضعني وحيدة تائهة في وسط لجة من الأفكار والتخيلات.