ما قامتْ به دولة الاحتلال الصهيونيّ من اعتراض لسفينة (مادلين)، واعتقال مَن كانوا على متنها لم يكُنْ حادثًا عرضيًّا ولا تصرفًا فرديًّا، هو امتداد طبيعي لعقليَّة ترى أنَّ القمع حقٌّ مكتسب، وأنَّ الإنسانيَّة ترفٌ لا يليق بالفلسطينيِّين، فهذه السَّفينة لا تحمل سلاحًا، ولا تسعى لقتال، وإنَّما أرادتْ أنْ تكسرَ الحصار الرَّمزي، أرادتْ أنْ تقولَ إنَّ العالَم لم يصمتْ تمامًا، لكن حتَّى هذا الصَّوت أرعبَ المحتلَّ، فهاجمها كما تهاجم العصابات المراكب في البحار المهجورة. إنَّ الرسالة الصهيونيَّة لم تكُنْ استفزازًا لفلسطين وحْدَها، لكنَّها تحدٍّ فجٍّ لكُلِّ عربي، لكُلِّ مُسْلِم، لكُلِّ إنسان يعرف أنَّ الجريمة حين تُترك دُونَ رادع، تُصبح نمط حُكم، ما حدَث هو إعلان تبجح وبلطجة صريحة تؤكِّد أنَّ كُلَّ يَدٍ تمتدُّ بالخير إلى غزَّة ستكسر، وكُلَّ ضوء في نهاية النَّفق يَجِبُ إطفاؤه قَبل أنْ يراه أحَد، إنَّها مواجهة بَيْنَ مَن يصرخون من أجْلِ الحياة، ومَن يدمنون الموت بوصفه سياسة رسميَّة. القرصنة الَّتي جرتْ في عُرض المتوسِّط تحمل توقيعًا سياسيًّا قَبل أنْ تكُونَ فعلًا عسكريًّا، فحكومة الاحتلال اليمينيَّة الإرهابيَّة المتطرفة، الَّتي تَقُودها شخصيَّات مطلوبة للعدالة، لم تترك فرصة إلَّا واستغلَّتها لتكريس مشهد الغطرسة، وتأكيد أنَّها لا تحترم قوانين، ولا تتوقف أمام أعراف، فها هي تعتقل البرلمانيِّين، تُلاحِق الفنَّانين، وتُهاجِم القوارب الإنسانيَّة وكأنَّها جيوش معادية، ما يؤكِّد أنَّ المسألة لم تَعُدْ فقط حَوْلَ غزَّة، بل عن معنى النِّظام الدّولي بِرُمَّته. فحين تُختطف سفينة أمام أعْيُن العالَم، ولا يتَّخذ أيَّ إجراء، فذلك يعني أنَّ منطق الغاب هو الحاكم، وهذه الحادثة، بكُلِّ رمزيَّة مَن كانوا على متنها، تفتح بابًا للتَّساؤل: كم من المرَّات يَجِبُ أنْ يهينَ المحتلُّ القانون حتَّى يعترفَ المُجتمع الدولي أنَّ هذه ليسَتْ دَولة طبيعيَّة؟ حين تمنع المساعدات الرمزيَّة، ويُساق الركَّاب إلى المعتقلات، ويًجرَّم التَّضامن، فإنَّ الاحتلال لا يتصرف فقط بصفاقة، بل يختبر صبرنا، ويقيس ما تبقَّى من ضمائر حيَّة. إنَّ النَّاشطين على متن السَّفينة لم يكُونُوا بحاجة إلى تعريف أنْفُسهم، فالعالَم يعرفهم، ويدرك جيِّدًا لماذا وُجِدوا هناك، لم يطلبوا مكافآت، ولم يسعوا وراء أضواء، لكن صعدوا إلى سفينة محاصرة وهم يدركون أنَّها قد لا تصل، هذا النَّوع من الشَّجاعة لا يُصنع في البيانات الدبلوماسيَّة ولا في المؤتمرات الفارغة، هؤلاء الأشخاص قرروا أن لا يتركوا غزَّة وحْدَها، واختاروا أنْ يدفعوا الثَّمن جسدًا وروحًا. ومع ذلك، يُساء معاملتهم، وتطاردهم آلة القمع، ولا أحَد يَضْمن سلامتهم، هنا تتضح الحاجة إلى حماية حقيقيَّة للمَدَنيِّين، ليس بالكلام، بل بإجراءات تضع حدًّا لتغوُّل الاحتلال. فالدَّعوات الدّوليَّة لا يُمكِن أن تظلَّ عائمة في الهواء، فكُلُّ دقيقة تأخير تعني مزيدًا من الجوع، ومزيدًا من القصف، ومزيدًا من القبور المفتوحة، غزَّة لا تطلب معجزة، فقط تطلب أن يتوقفَ الجلَّاد عن تمزيقها، وأنْ يسمحَ للحياة أنْ تمرَّ من خلال ممرٍّ مائي صغير، تحمله سفينة مِثل (مادلين). أمَّا النِّداءات السياسيَّة الَّتي خرجت من المؤسَّسات الفلسطينيَّة، فهي لم تَعُدْ مجرَّد بيانات غضب. هي صرخة ترسل من أرضٍ تحوَّلت إلى مقبرة، ومن أناس يعيشون بلا دواء، بلا طعام، بلا أمان.. إنَّ قِطاع غزَّة لم يَعُدْ يصلح لحياة البَشَر؛ وذلك بسبب منهجيَّة تدميريَّة واضحة، فذلك الكيان الصهيوني الإرهابي لا يكتفي بالقصف، بل يسعى لتغيير تركيبة المُجتمع، يحوِّل الأحياء إلى أنقاض، والمستشفيات إلى قبور، ويزرع المجاعة كسلاح يومي.. والغريب أنَّ هذا كُلَّه موثَّق، ولا يُمكِن التَّهرُّب مِنْه، والاستمرار في تجاهله يعني المشاركة فيه. نَعُودُ ونُكرِّر أنَّ السُّكوت لم يَعُدْ حيادًا، بل تورُّط، والموقف الأميركي ـ بما يحمله من دعم مُطْلق لهذا الاحتلال ـ يتحمل مسؤوليَّة مباشرة في استمرار هذه الفظائع. المطلوب الآن ليس تنديدًا جديدًا، بل خطوة فعليَّة توقف آلة الحرب، وتفتح أبواب العدالة، كفى بيانات. آن أوان الإجراءات. آن أوان العقوبات. آن أوان الحقيقة.