الخميس 12 يونيو 2025 م - 16 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

تقنيات المستقبل

تقنيات المستقبل
الاثنين - 09 يونيو 2025 05:43 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

20

أوُتي الإنسان قدرات ذهنيَّة عليا وإمكانات بدنيَّة قويَّة ومرنة تمكنه من تحقيق مقاصده وإنجاز مصالحه واكتساب مقوِّمات معيشته ورخائه ومن القيام بمسؤوليَّات الاستخلاف في الأرض. وفي سبيل ذلك طوّر ـ على مدى أزمنة وجوده في الأرض ـ أدوات وطرائق استخدامها على نحو متدرج وتصاعدي بدءًا من استخدام الحجر للصيد وللدفاع ومن استئناس الحيوانات واستخدامها لحرث الأرض وزراعتها وانتهاء بإنتاج ذكاء اصطناعي يُوكل إِلَيْه شتَّى المهمات والأعمال. هذا التطوّر المتصاعد هو انعكاس لتراكميَّة معارفه ولاتساع خبراته ولتعمُّق إدراكه. الإتقان هو قمَّة الأداء ومنتهى الإنجاز ولا يتأتَّى إلَّا بتطوير مستمر للأدوات وكفاءة استخدامها وتعظيم عوائد استغلالها. للإتقان مرتكزان نستخدم مصطلحين للدلالة عَلَيْهما التقنيَّة (التكنولوجيا) والتقنيَّات المعرفيَّة (التكنيكيَّات). الأوَّل لوصف الأدوات والأجهزة، والبرامج الحاسوبيَّة، والتطبيقات الذكيَّة، وأشباهها. الثاني لوصف طرائق العمل وأساليب الأداء ومقاربات الإنجاز والإبداع والابتكار كتقنيَّات الكتابة الخلَّاقة. وقد اُقتبس المصطلحان من اللغة الأجنبيَّة، ولكن بترجمة حرفيَّة غير دقيقة. واتساقًا مع ما جاء في مقالات سابقة حول الجدارة الكميَّة (اقتباسًا من مبدأ فيزياء الكمّ) وكونها توصيفًا لترابط وتكامل جدارات (ومهارات) فرديَّة تخصصيَّة بأخرى أدائيَّة وتطويريَّة جماعيَّة تشاركيَّة فإنَّنا نسقط هذا التوصيف على مرتكزي الإتقان: التقنيَّة والتقنيَّات. فهما مترابطان ومتكاملان لا يقوم أحدهما إلَّا بالآخر. وعلى ذلك فإنَّنا سنطلق مصطلح التقنيَّة ليشملَ الأدوات وطرائق استخدامها وأساليب تحقيق مستهدفاتها. وعلى ذلك فإنَّ التقنيَّات هي جمع التقنيَّة ولا تقتصر على أساليب الأداء وطرائق الإنجاز كما هو شائع استعماله. التقنيَّة بمرتكزيها في تطوّر دائم وتحديث مستمر غير أنَّ تطوّر المرتكز الثاني يأتي تبعًا لتطوّر المرتكز الأوَّل. وقد أدَّى هذا التفاوت إلى نشوء مُجتمعيْنِ (إن صحَّ لنا التعبير) مطوّرين ومستخدمين. مُجتمع المطوّرين يتمتع بأفضليَّة التحكُّم في طرائق استعمال ما يطوِّرون من تقنيَّات على المستخدمين لها مما يؤدي إلى تبعيَّتهم للمطوّرين والوقوع في مستنقعات الاستهلاك المضر في كثير من الأحيان. مثال ذلك تأثير الهواتف الذكيَّة وتقنيَّات الذكاء الاصطناعي على سلوكيَّات المستخدمين وتعلُّقهم بها والَّذي قد يصل إلى حد الهوس واللهث وراء كلِّ جديد ومشاركة بياناتهم الشخصيَّة والَّتي يستخدمها المطوّرون في تعميق التبعيَّة والارتباط. وقد أدى اعتماد الحرفيِّين والمهنيِّين على المطوِّرين للتقنيَّات إلى تلاشي قدراتهم ومُكنتهم في تطوير تقنيَّاتهم وأدواتهم الخاصَّة بهم وبحرفهم ومهنهم مما أضعف ميزاتهم التنافسيَّة. إنَّ شيوع وسهولة استخدام التقنيَّات من قِبل غير المتخصِّصين والمطوِّرين جعل للمطوِّرين قدرة ومكنة في توجيه استخدام التقنيَّات والتحكُّم بسلوكيَّات المستخدمين لتعظيم مصالحهم الخاصَّة (منافع ماليَّة واقتصاديَّة وسلوكيَّة استهلاكيَّة) وإن كانتْ في كثير من الأحيان على حساب خيارات المستخدمين وحقوقهم. ومن التحوُّلات الكبرى الَّتي طالت التقنيَّات هي التحوُّل من الاعتماد على الأداء الميكانيكي الحركي إلى الأداء الكهربائي الإلكتروني وأنظمة التحكُّم القائمة على الحوسبة والذكاء الاصطناعي. مما سارع في تطوُّر التقنيَّات وجعلها متاحة للكثيرين من المطوّرين من جانب ودفع إلى التكامليَّة والتشارك من جانب آخر. فقد تلاشت كثير من حواجز الحمايات والحصريَّة ولأسباب اقتصاديَّة إنتاجيَّة تغيّرت أساليب التطوير التقني والإنتاج الصناعي من حصريَّة استخدام وتطوير التقنيَّات بناء على براءات الاختراع والملكيَّة الفرديَّة إلى التوجه لإيجاد مصادر مفتوحة ومنصَّات تطوير تشاركيَّة. هذا الوضع أتاح تسابق في ابتكار وتطوير التقنيَّات وجعل دوراتها الزمنيَّة أقصر. ومن التحوُّلات الإيجابيَّة الأخرى والدَّاعمة لبناء ممكنات المستقبل التقنيَّة تيسّر عمليَّات الابتكار والتطوير التقني دُونَ الحاجة إلى ضخ استثمارات ضخمة أو بناء مرافق تطوير كبرى لا يستطيعها إلَّا المؤسَّسات الكبرى. وذلك من خلال البناء على الإنجازات العلميَّة الكبرى والنقلات التقنيَّة الفارقة والَّتي بِدَوْرها ما زالت تعتمد على استثمارات وجهود بحثيَّة وتطويريَّة كبيرة تقوم بها الدول ومؤسَّساتها السياديَّة كجزء مهم من البنى الأساسيَّة والمرتكزات الأساسيَّة للدول. مثال ذلك الاستثمارات الضخمة في العلوم الكميَّة وتقنيَّات النانو والاتصال والفضاء وغيرها من مسرعات وممكنات النقلات التقنيَّة العظمى. وإذا ما توافرت لدى الدول البنى الأساسيَّة للتطوّر التقني فإنَّ الابتكارات التطبيقيَّة وإنتاج منتجات ووسائل استخدام ميّسرة تصبح في متناول أيادي كثير من المبتكرين، سواء كانوا على مقاعد الدراسة أو روَّادًا للأعمال بموارد ماليَّة قليلة وبأدوات تطويريَّة بسيطة ومتاحة. وبذلك تكُونُ العقول المبتكرة والدافعيَّة للريادة ومن يمتلك الشغف هي ممكنات رئيسة وأساسيَّة في الدفع بالتقدم التقني ولبناء قدرات وطنيَّة وتحقيق منافع اقتصاديَّة وتنمويَّة. إنَّ امتلاك القدرات البحثيَّة التطويريَّة الأساسيَّة والكوادر المؤهلة الشغوفة والعصاميَّة والنظم الداعمة هي ممكنات ومتطلبات أساسيَّة وضروريَّة لتشكيل المشهد التقني المستقبلي ولفتح المجال واسعًا لبناء وتطوير وامتلاك تقنيَّات المستقبل. إننا نعيش اليوم في مرحلة فارقة لبناء القدرات الوطنيَّة التقنيَّة بمرتكزيها الأدوات والأجهزة وبرامجها المشغّلة وكذلك طرائق العمل وأساليب الأداء ومقاربات الإنجاز. لقد أصبح بناء القدرات وتطوير الإمكانات التقنيَّة متاحًا للكثير من الدول والمؤسَّسات ـ إن هي وضعت لذلك استراتيجيَّات واضحة واستثمرتْ مواردها البَشَريَّة والماديَّة بفعالية وكفاءة عالية. فقَدِ استطاع كثير مما كان يُعرف بالدول النَّامية اللَّحاق بالدوَل المتقدِّمة، بل وتجاوزها في مجالات تقنيَّة عديدة. لم تَعُدِ المؤشِّرات الاقتصاديَّة والقدرات العسكريَّة والنفوذ السياسي هي مقاييس التقدم ومعايير التأثير، بل الاستجابة الكفؤة للمتغيّرات وبناء وتطوير قدرات صناعيَّة، وابتكاريَّة، وتقنيَّة، وتجاريَّة أصبحت مقاييس معتبرة للتقدم. تطوير قدرات بناء وتسخير تقنيَّات المستقبل أصبح ضرورة ملحَّة لضمانِ استدامة تقدم الدول ونهضتها ولحماية مواطنيها من تداعيات التبعيَّة للمؤسَّسات التقنيَّة العابرة للحدود ذات الدوافع الربحيَّة أو السيطرة الثقافيَّة والسلوكيَّة. أصبح كثير من شركات التقنيَّة الكبرى متحكمة في الأسواق وفي مختلف مناحي الحياة ومِنْها تشكيل سلوكيَّات ورغبات المستخدمين لتقنيَّاتها لتعظيم منافعها الماليَّة ولإحكام سيطرتها الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة على البَشَر. إنَّ الانعتاق من سيطرة وتحكُّم شركات التقنيَّة الكبرى وخصوصًا تلك المالكة لمنصَّات التواصل الاجتماعي الحديثة ومنصَّات البيع والشراء الإلكتروني ومنصَّات تقديم الخدمات بأنواعها وما تمتلكه من بيانات عن المستخدمين أصبح ضرورة ملحَّة لا بُدَّ من مجابهتها ولا يتمُّ ذلك إلَّا من خلال بناء وتطوير تقنيَّات المستقبل الخاصة والمستقلة. إنَّ بناء قدرات وممكنات التَّنمية التقنيَّة يتطلب إيجاد بنى أساسيَّة بدءًا من منظومات تعليم مدرسي وجامعي متطوّرة، وانتهاء بإنشاء مؤسَّسات ابتكار ومحاضن ريادة الأعمال، وتأسيس مراكز تفكير وتطوير مؤهلة قادرة. ويتطلب كذلك تقديم دعم سخي وحماية فعَّالة للمبتكرين وروَّاد الأعمال وإيجاد بيئات عمل حاضنة وداعمة للإقدام ومواجهة التحدِّيات ومساندة لتجاوز العقبات بالتجريب والتطوير المستمر والتشارك في تحمّل المسؤوليَّات. وتتطلب إنماء ثقافة التفكير الناقد والمستقل وممانعة إغراءات الاعتماد الكُلِّي على التقنيَّات الذكيَّة لأداء أدوار ومسؤوليَّات الإنسان الذهنيَّة والتطويريَّة. مثال ذلك تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي كمساعد للإنسان وليس لتقوم مقامه أو تحلَّ محلَّه. فالإنسان بما أوتي من ملكات وقدرات هو الأقدر والأكفأ والأجدر. إن نظرنا إلى واقعنا المحلِّي العُماني خصوصًا والعربي عمومًا فإنَّه لدينا قصور كبير في البنى الأساسيَّة البحثيَّة والتطويريَّة الأساسيَّة والَّتي هي القاعدة الأساس والَّتي تنطلق مِنْها أيُّ تنمية تقنيَّة متينة ضروريَّة لتطوير تقنيَّات المستقبل. بَيْنَما يتوافر لدينا كثير من المواهب والكوادر الشابَّة الجريئة في مجالات الابتكار وتطوير التقنيَّات والريادة في الأعمال والقادرة على إحداث نقلات نوعيَّة وقفزات تقنيَّة كبرى. إلَّا أنَّها تحتاج إلى توافر الدعم والمساندة والتوجيه والحماية من المنافسة الشرسة وغير العادلة وإلى وجود قاعدة تقنيَّة صلبة وبنى أساسيَّة بحثيَّة تطويريَّة صلبة ومتينة. بناء وتطوير تقنيَّات المستقبل ضرورة ملحَّة وحتميَّة لضمان استقلال الأوطان وازدهارها وقدرتها على مواجهة عالَم المستقبل. عالَم سِماته التنافس الشرس والتدافع العنيف والتسابق الرهيب في تسخير التقدم التقني لضمان هيمنة مطوِّري ومالكي تقنيَّات المستقبل بشقيها الصلب (الأجهزة والأدوات والبرامج المشغّلة والتطبيقات) والناعم (طرائق الاستخدام وأساليب تحويل معطيات التقنيَّات إلى قِيَم ومنافع وقوى وتأثير). إنَّنا نقف اليوم على أعتاب مرحلة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانيَّة يشكِّل ملامحها من يمتلك ممكنات المستقبل من قدرات وجدارات وتقنيَّات.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية