في زمن مضى، كانتِ الشيخوخة أو التقدم بالعمر ترى نهاية الطَّريق، وتقابل بالصَّمت والتراجع، وكأنَّها مرحلة الانسحاب من الحياة، لا مجال فيها للعطاء ولا للأحلام. لكنَّنا اليوم أمام تحول غير مسبوق، حيثُ لم تَعُدِ السنوات الأخيرة من العمر مرحلة انطفاء، بل أصبحتْ ـ إن استطعت القول ـ مساحة جديدة للنضج والإبداع، بل ولحياة ثانية أكثر وعيًا وعمقًا. حقيقة إنَّها الشيخوخة الجديدة، الَّتي تقلب الموازين وتمنح الزمن معنى مختلفًا! وهكذا ومع ازدياد متوسِّط الأعمار حَوْلَ العالَم بفضل التقدم الطبي وتحسُّن أنظمة الصحَّة العامَّة، لم يَعُدِ العمر وحده مقياسًا لقِيَمة الإنسان. فالعبرة لم تَعُدْ بطول الحياة فقط، بل بجودتها. لذلك نحن أمام واقع جديد، تدار فيه الشيخوخة والتقدم بالسِّن بأساليب علميَّة، ورؤية اجتماعيَّة، والمفروض بنبل إنساني يحفظ للإنسان كرامته وفاعليَّته. ولِكَيْ أكونَ دقيقًا، في عصرنا هذا لعلَّنا تجاوزنا مرحلة النظر إلى الكبر بوصفه عبئًا بيولوجيًّا. أصبحنا نرى في سنوات التقدم في العمر فرصة لإعادة التصميم: تصميم الجسد بالعناية، والروح بالحكمة. فالطِّب الحديث لم يَعُدْ يركز فقط على علاج الأمراض، بل على الوقاية مِنْها، وعلى الحفاظ على الاستقلال الوظيفي والذهني، وتقليل تداخل الأدوية، وتعزيز نمط حياة نشط ومشبع بالهدف. وعَلَيْه لم يَعُدِ التقاعد نهاية المطاف، بل بداية مسار جديد. كثير من كبار السِّن اليوم ينخرطون في العمل التطوعي، يبدؤون مشاريعهم الخاصَّة، أو يشاركون بخبراتهم كمستشارين. لقد أثبتتِ الدراسات أنَّ الانخراط المُجتمعي يحمي من الاكتئاب ويقلل من فرص الإصابة بالخرف. وكأنَّ الإنسان كُلَّما تقدم به العمر، زاد اتصاله بجوهره، وازداد عطاؤه نقاء. يقال: ما زاد عمر المرء إلَّا واتسع صدره، وما كبرت سنُّه إلَّا واتسع قلبُه! مع ذلك جميعنا يعي أنَّ التحدِّيات حاضرة. فالوحدة، وهشاشة العظام، وضعف السمع والبصر، وتدهور الذاكرة، تفرض نفسها على واقع الشيخوخة. لكن ما تغير اليوم هو قدرتنا على التنبؤ، وعلى التعامل معها بحلول متكاملة. فأنظمة الصحَّة بِدَوْرها بدأت تدرك أنَّ الشيخوخة تحتاج إلى مقاربات خاصَّة. ولعلَّنا دائمًا ما نؤكد أنَّه من الضروري أن تتحول الرعاية من النمط العلاجي داخل المستشفيات إلى النمط الوقائي في المُجتمع. وبالواقع ومن منظور شخصي أرى أنَّ الرؤية المعاصرة تطالب بفِرق عمل متعددة التخصصات تعمل جنبًا إلى جنب لخدمة المسن ليس كمريض، بل كإنسان متكامل الاحتياجات. بل والاهتمام يَجِبُ ألَّا يقتصر على الجسد، بل يمتد إلى العقل والنَّفْس والكرامة. والحمد لله، سواء كان من منظور ديني أو إنساني، ينظر إلى الكبار في مُجتمعاتنا باعتبارهم كنوزًا معرفيَّة، وحكماء يستشارون، ويجلّون. فإذا كان العمر يقاس بعدد السنوات، فإنَّ الحياة تقاس بمدى الحضور فيها. لقد أثبتتِ الشيخوخة الجديدة أنَّ السنوات المتقدمة يُمكِن أن تكُونَ الأجمل؛ لأنَّها تحمل تجارب الحياة كُلِّها، وتحرر الإنسان من أوهام المنافسة، وتمنحه صفاء الرؤية، وعُمق التأمل، ولذَّة السكينة. ختامًا، لعلَّنا أدركنا كيف أنَّ الشيخوخة أو التقدم بالسِّن ليسَتْ عبئًا نخشاه، بل حقًّا مرحلة نتهيَّأ لها بالعقل، ونستقبلها بالقلب، ونعيشها بكامل إنسانيَّتنا. كيف لا؟ وهي وقت النضج الهادئ، والسرد العذب للتجربة، والامتنان العميق لما مضى وما تبقى. وكما قال جبران خليل جبران: الشيخوخة ليسَتْ فقدان الشَّباب، بل مرحلة جديدة لاكتشاف الذَّات. لقد أثبتتِ الدراسات أنَّ الانخراط المُجتمعي يحمي من الاكتئاب ويقلل من فرص الإصابة بالخرف. وكأنَّ الإنسان كُلَّما تقدم به العمر، زاد اتصاله بجوهره، وازداد عطاؤه نقاء.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي