يحمل شهر يونيو/حزيران في الذَّاكرة العربيَّة ذكريات عديدة مع أنَّ أكثرها مرارة كانتْ حرب يونيو 1967م والَّتي قال عَنْها الشَّاعر العروبي الكبير نزار قبَّاني: أدمـت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها.. وباسوا كف من ضربا... وطالعوا كتب التَّاريخ.. واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟! لكن عِندَما تستحضر الذَّاكرة العربيَّة تستنفر الأقلام لاستذكار المآسي عن سبق إصرار وترصُّد ويطغَى عَلَيْها أحيانًا حالة من التَّشفِّي وتصفية الحسابات لإفراغ الشّحنات السلبيَّة! وللأسف ذاكرة يونيو تُمثِّل فرصة سانحة لاستهداف قائد كبير بحجم جمال عبدالنَّاصر الَّذي قلَبَ مواجع الأعداء وأفقدَهم مراكزهم الاستعماريَّة في الشَّرق العربي من المحيط إلى الخليج، فكيف إذا كان الحدث يُعَدُّ نكسة حسب ما يراد تسميتها وغيَّرتِ الحدود؟! هنا لا تحتاج الأقلام إلى ترخيص لتصبَّ هجومها اللَّاذع على زعيم عربي قادَ تجربة عظيمة من التَّجارب الإنسانيَّة الحاكمة ورفعَ صوت العروبة عاليًا في المحافل الدّوليَّة، وكان ينبغي التَّريُّث لمحاكمة التَّجربة سلبًا وإيجابًا في ظرفها الزَّماني والمكاني وظرفها الدّولي واتِّباع قواعد منهجيَّة في المُحاسبة التَّاريخيَّة وتحرِّي الأمانة والدقَّة والمصداقيَّة. لكن ـ للأسف ـ أغْلَب مَن ينبري لمهاجمة عبدالنَّاصر جاء متماهيًا مع حمَلات التَّشويه الَّتي لم تتوقفْ منذَ رحيله ومع الزَّمن قُلبتِ الحقائق حتَّى المنجزات أصبحتْ من الخطيئات، ومع ذلك بَقِيَ عبدالنَّاصر هو القائد العربي الحاضر الَّذي لم يَغِبْ أبدًا عن أيِّ مناسبة عربيَّة ترفع صوَره في مختلف الأرجاء استئناسًا بتجربته الَّتي عبرتِ الزَّمان والمكان وأصبحتْ نموذجًا للبطولة ومقاوَمة الاستعمار والعدالة الاجتماعيَّة؛ لذا تحوَّلتْ تلك الحمَلات النَّاقدة وقودًا يُضيء تلك التَّجربة العظيمة. عِندَما يتحوَّل يونيو إلى حالة استنهاض قومي واستيقاظ أُمَّة لإعادة البناء والتَّجديد، فهي ـ بلا شك ـ إصابة أرادها الله منبِّهة للأُمَّة وقياداتها للتَّحرُّك المدروس نَحْوَ استرداد الكرامة والثَّأر، وهو ما حدَث في اليوم التَّاسع من يونيو 1967م عِندَما أعلنَ جمال عبدالنَّاصر خِطاب التَّنحِّي أعقبَه ثورة عارمة في شوارع القاهرة والمُدُن الكُبرى والأرياف بخروج الملايين من أبناء مصر، بل وملايين آخرين من أبناء الأُمَّة العربيَّة رفضًا للخِطاب التَّاريخي والمُطالَبة بالعدول عن قرار التَّنحِّي مُردِّدين «هنحارب» رفضًا للهزيمة؛ لأنَّ تلك الجماهير استشعرتْ بأحاسيسها أنَّ عبدالناصر هو القائد الَّذي سيُكمل المشوار ويَقُود المرحلة الأصعب في تاريخ الصِّراع، والإعداد لمعركة استرداد الكرامة، فكانتْ إرادة الله متوّجة لهذا الزَّعيم بالعودة وقيادة ذلك الوهج القومي الَّذي كان يُسجِّل أعظم النَّتائج على صعيد الاستعداد للحرب وحرب الاستنزاف، وتحديث الجيش المصري ولملمة شتات الموقف العربي، واستمرار النَّهج الوطني في التَّعليم والصحَّة والصِّناعة والعدالة الاجتماعيَّة والمكانة الدّوليَّة، وضخِّ المزيد من وقود التَّحرير للأقطار العربيَّة والإفريقيَّة؛ لِيصبحَ عبدالنَّاصر مُلْهِم الأحرار حَوْلَ العالَم على طريق الحُريَّة والوحدة والكرامة الإنسانيَّة على شعار: «ارفع راسك يا أخي فقَدْ مضَى عهد الاستبداد». نعم كانتْ عودة عبدالنَّاصر هي أعظم استفتاء في التَّاريخ، حيثُ قضَتْ مشيئةُ الله أن يَعُودَ عبدالنَّاصر مُتوَّجًا بإجماع وطني ـ قومي عربي لِيبدأَ مرحلة جديدة من النِّضال. النَّظر إلى تجربة الزَّعيم جمال عبدالنَّاصر تتطلب استقراء التَّجربة بتجرُّد وعُمق، والتَّمعُّن في مبادئها وأدواتها ومنجزاتها، واستطلاعًا أوسع لتاريخها بعيدًا عن حمَّى التَّشويه الَّتي ألْقَتْ بظلالها على فَهْمِ التَّجربة وحقيقتها وقِيمتها.. وكما قال أحَدهم: الفَرق بَيْنَنا وبَيْنَهم «الجنائز» يقصد جنازة عبدالنَّاصر المليونيَّة. ونحْنُ نقول إنَّ الفَرق بَيْنَ تجربة عبدالنَّاصر في حجم تأثيرها وحضورها الدَّائم بمنجزاتها ومبادئها الفكريَّة الَّتي قدَّمتها وما زالتْ حاضرةً في ذاكرة التَّاريخ العربي الحديث. رحمَ الله جمال عبدالنَّاصر. رفيق صلاح الدين.. هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ رفاقك في الأغوار شدّوا سُروجَهم وجندك في حِطِّين، صلّوا.. وكبّروا.. تُغنّى بك الدُّنيا.. كأنك طارقٌ على بركات الله، يرسو.. ويُبحرُ تناديك من شوقٍ مآذنُ مكّةٍ وتبكيك بَدرٌ، يا حبيبي، وخيبرُ ويبكيك صفصاف الشام ووردها ويبكيك زهرُ الغوطتين، ودُمَّرُ. «نزار قباني»
خميس بن عبيد القطيطي