الخميس 05 يونيو 2025 م - 9 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

يوم عرفة.. بين المعاني اللغوية والدلالات التربوية

الثلاثاء - 03 يونيو 2025 05:58 م
10

لو طالعنا أحد المعاجم اللغوية حول لفظة (عرفة)، ومعانيها اللغوية لوجدناها تدور حول جملة من الدلالات هي التي يًرادُ تحصيلُها من وراء فريضة الحج، وهي التي تفسِّر معنى قول الرسول الكريم:(الحج عرفة)، فالرسول الكريم قد اختصر الحجَّ كله بكل أعماله، وأيامه، وأحكامه في هذه الجملة الاسمية:(الحج عرفة)، وهي جملة اسمية تفيد ثبات الحكم واستمراره، وأزليته وديمومته، فمن أراد أن يقف على الحج، ومقاصده، وفلسفته، وغاياته، وحِكَمِهِ، وأهدافه، فهو عرفة، وكل ما يتمُّ فيه من مطلع الشمس إلى غروب الشمس، وانتهاء يوم عرفة، فالمادة اللغوية ـ وفق ما يذكره المعجم العربي ـ تدور حول المعاني الآتية:(تدبير أمر القوم، وسياستهم، وإدراك الأمر بالحواس، والمجازاة لكل مَنْ قَدَّمَ شيئًا، والصبر، وترك الزينة، والإكثار من الطِّيب، والوقوف بعرفة، وتعريف الشيء: تطييبه وتزيينه، ونُشْدَان الشيء، والقيام لمعرفة صالح الأمر من الطالح، وَوَسْم الشيء، وإعلام الآخرين بالأمر، والإقرار، والاعتراف، والاستخبار، وتعارف الناس بعضهم بعضًا، والتعريف بالنفس).. إلى غير ما تذكره المعاجم من دلالات لغوية لتلك الكلمة المباركة. وفي الحقيقة، فإننا نرى ذلك حقيقة، وواقعًا عمليًّا متحققًا في هذا اليوم الكريم، فَأَهْلُ عرفةَ ينهضون بأنفسهم، ويدبِّرون أنفسهم، ويسوس عالمُهم جاهلَهم، وقويُّهم ضعيفَهم، وكبيرُهم صغيرَهم، وفَقِيهُهُم مُتَفَقِّهَهُمْ، ويدركون كلَّ معاني الحج بأنفسهم، وعن قرب فيما بينهم، ويقدِّمون الشكر لكلِّ من يخفف عنهم، ويعاونهم، وهم في صبر، وجهاد، وعزم، واجتهاد متواصل، وهم في أثناء حجهم، ووقوفهم بعرفات الله، يتركون الطيب الذي يعني حياة الدعة، والهدوء، ورمز الحياة الدنيا، وزينتها، ويجاهدون أنفسهم، ومنهم مَنْ يفترش الأرض، ومنهم يمضي نهارَه ماشيًا، متنقلًا هنا، وهنا، يذكر الله، ويدعو، ولكنهم بعد انتهاء الحج يُمَسِّكُونَ أنفسهم، ويتزينون، ويتطيَّبون، فقد كان الطيبُ ممنوعًا عنهم أيامَ الحج، ولكنهم بعد انتهائهم منه يعودون إلى التطيب، ولبس أجمل الثياب، ويضعون أطيبَ المسكِ، ثم إنهم يتعلمون طيلة اليوم ممن يصطحبونه من العلماء، يُعَرِّفهم أحكام الحج، ودلالاتِ الوقوف بعرفةَ، وما عليهم في هذا اليوم المَهيب الرَّعيب، ويقفون على صالح الأمر، وطالحه، والنافع منه، والضار، فيمتثلون لأمر الله، ويقفون عند حدوده، لا يتعدونها، ولا يقدمون شيئا بين يدي الله، ورسوله، ويتعارفون فيما بينهم، ويقرُّون لله بالولاء، والبراء، ويستخبرون عن كلِّ ما يَعِنُّ لهم، ويمضي يومُهم معرفةً في معرفة، وعبادةً لله على بينة، ونور، ويمضي اليوم وقد حصلوا كلَّ ما يريدون، وصعدتْ إلى الله كلُّ عبادتهم، وكثرة ذكرهم، وشكرهم، وخضوعهم، وخشوعهم، ودعواتهم، وبكائهم، ورجاءاتهم، ونداءاتهم وتلبياتهم، وكل رغباتهم بين يدي ربهم، مخلصة محوطة بالتقوى، وبعيدة عن الرياء. وقد قيل في سبب التسمية بعرفة أن يتعرفَ الناس على بعضهم بعضًا، ويتقاربون، وتتلامسَ القلوب محبة وقربًا، ويتناقلون معارفهم، وقراءاتهم حول عرفة، ومتطلباته، وتكاليفه، ويعينَ بعضهم بعضًا على طاعة الله، وأن يحققوا تلك الدلالة فيما بينهم، فتراهم يتعارفون فيما بينهم، وتتقارب قلوبهم، وتلتحم أفئدتهم، ويَتَقَوَّوْنَ ببعضهم، ويتعاونون، وذلك تحقيقا لقوله تعالى:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، كما يتعاونون على المعرفة بأن يعلِّم عالمُهم جاهلَهم، ويتدارسون العلمَ، والمعرفَةَ، كما كان مع سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ عندما كان يطوف بسيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويريه المناسك كلها، والمشاهد، ويعلِّمه، وهو يقول له:(أعرفت أعرفت؟) (يكررها له) فيرد: نعم، عرفت، عرفت)، فيعلِّم بعضُنا بعضًا، ويبصِّر بعضُنا بعضًا، ويَصْبِر أحدُنا على تعليم أخيه، حتى تأتيَ طاعاتُنا صحيحة، وعباداتُنا سليمةً، فتكونَ أقرب إلى القبول، والرضا، وكما يلتقي الرجالُ بالرجال في أمر التعلم، والتبصرة، كذلك تلتقي النساء بالنساء في هذا الشأن، فتعلم إحداهما الأخرى، وتتقرب من أختها، وتعرِّفها، وتبصِّرها، فتلقي كذلك القلوب، وتتحابُّ الأفئدة، كما حدث مع سيدنا آدم عندما أهبط من الجنة، هو وحواء في ذلك المكان، التقيا، فعرف بعضُهم بعضا، عرَفها وعرَفته، وأطاعا ربهما ـ جل جلاله ـ ومن ثم سُمِّيَ بعرفةَ، فلابد من إفساح مجال التعارف، والتعلم، والمعرفة؛ لنحقق مدلول عرفة، كل ذلك وفق القرآن الكريم، والسنة المباركة، ونهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومَنْ تبعهم. وهذا اليوم فيه من الرمزيات الكثير، فهو يقفنا على يوم الحشر، فعلى مرمى البصر نرى البشر، كأنما الأرض كلها قد اكتست بالثياب البيض، وكأننا في عَرَصَاتِ الله، ويوم النشور، والجميعُ يذهب هنا، وهناك، وهنالك، والناس يهطعون رؤوسهم بعيدا كأنما يهطعون إلى الداعي، وكأنهم يمضون إلى مساءلة الله لهم، ووقوفهم بين يديه، كما قال تعالى:(وقفوهم إنهم مسؤولون)، (يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية)، ومن معانيه التربوية كذلك أنه أكبر مؤتمر كوني، عرفه العالم أجمع، فليس هناك مؤتمر يجتمع فيه الخلق بألوانهم، وجنسياتهم، ولغاتهم، وثقافاتهم مثل يو عرفة، فهو أمر يدعو إلى الدهشة، والتعجب من هذا الاجتماع الكوني الكبير الذي تتمثل فيه كل الجنسيات، والأعراف، والعادات، والتقاليد، واللغات، والفكر، والثقافات، ويتعلم الخلق من بعضهم بعضًا، ومن دلالاته التربوية كذلك أن هذا الاجتماع هو أكبرُ دليل، وأعظم بيان على وَحْدَةِ الإسلام في الملبس، والتلبية، وكل أعمال الحج التي يأتيها حجاجُ بيت الله الحرام من طواف القدوم، حتى طواف الإفاضة، أو طواف الحج، والحلق، والتقصير، فلها رمز الوحدة، والقوة، والعزة، والأخوة، وإن هذا المنظر ليقضُّ مضاجع الكافرين، ويدخل في قلوبهم المهابة، والرهبة، عندما يرون ملايين البشر تدين لربٍّ واحد، وتمضي بسيرة نبي واحد، حول بيت واحد، ونُسُكٍ واحدة، وأعمالٍ مترتبة، منظمة يعملها كل الحجيج، ولا يتركون شيئا منها، وكل التلبية واحدة، والملبس، واحد، والخضوع لله العلي العظيم في كل منسك، يعملونه بصورة واحدة، كل ذلك يجعل كثيرا منهم يدخلون في دين الله أفواجا. ومن دلالات عرفة أيضًا أنهم يقفون في صعيد واحد، ويصلُّون الظهر والعصر جمعا وقصرا جميعًا، وفي مزدلفة:(المشعر الحرام) يصلُّون المغرب، والعشاء جمع تقديم، وقصرا، ثم يلتقطون الحصى لرمي جمرة العقبة، ثم ينامون، وكأنما هم رجل واحد، له قلب واحد، وعقل واحد، ويمضون ِخُطًا واحدة؛ مما يدعو إلى أن يفكِّر الكثير ـ ممن يشاهدون تلك المناظر ـ في سرعة الإيمان، والوقوف على جلال الإسلام، وكمال الصلة بالله العزيز، العلام، ومن دلالات الحج التربوية أنَّ مَنْ فَعَلَ خطأ مَّا يستوجب الفدية عجَّل به، وسارع إليه، واستغفر ربه، وأناب إلى مولاه، بقلب خاشع، وطَرْفٍ دامع، وكأنه من خوفه، وإحسانه يعبد ربه كأنه يراه، ويعجِّل بالفدية، ولا يتأخر؛ رجاءَ القبول من الله. ومن دلالات الحج والوقوف بعرفة كذلك تلك الروح الرقيقة التي تدبُّ في كل نفس من نفوس الحجيج، بحيث تشعر كل روح بأهمية هذا الوقوف، وقيمة ذلك اليوم، فلا تضيع لحظة واحدة من هذا اليوم المشهود، فتنهمر صلاة، وذكرًا، وتلبية، وشكرًا، ودعاء وبكاء، ونصحًا، وتدريسًا، وتعليمًا، وتبصيرًا، ويجتمع الناس مع بعضهم بعضا، والجميع يريد التخفيف عن أخيه، بكل ألوان التخفيف، ويدعو الناس لبعضهم بعضًا، وترى الجميع مشغولًا بالطاعة بكل ألوانها، وأطيافها ما بين: تلاوة للقرآن الكريم، ودعاء، وتسبيح، وتهليل، وتلبية، ومساعدة لكبار السن، ومعاونة إذا احتاج أحدهم إلى معاونة، ومسارعة لتقديم الطعام، والشراب لكل محتاج، وترى الناس في هذا اليوم كأنهم ملائكة من: ارتقاء مشاعرهم، واخضلال لحاهم، وأعينهم بالدموع الصادقة، وتعفير جباههم، وظهور التعب عليهم، وامتلاء وجوههم، وملابسهم بالتراب، وكأنهم مجاهدون طوال تلك الأيام، لا يمسون طيبًا، ولا يحلقون شعرًا، ولا يقلِّمون أظافرَ، حتى يطوفوا طواف الإفاضة، فهم في جهاد متواصل، وتعب كبير، واجتهاد، وعزم غير قليل، قد علَّمهم الحجُّ الصبر، والمثابرة، والاصطبار، والرباط، والتعاون، والبذل، والعطاء، والتحمل، والتجمل، والتكافل، وعفة اللسان، وعدم الاقتراب من اللغو، والرفث، والفسوق، والجدال، وتراهم في أخوة عزيزة، وانسيابية كريمة، يعفو بعضهم عن بعض، ويتحمل بعضُهم بعضًا، وكأنك ترى الصحابة في أسمى صورهم، وأتقى أفئدتهم، وهذا أمر مهم؛ حتى يظلوا هكذا طيلة العام، حتى يأتي عرفةُ آخرُ من قابل، فيراهم على حالهم من هذا الصفاء، وتلك الأخوة والنقاء، وذاك الكرم والسخاء، وذلك الفضل فيما بينهم، والنعماء.

د.جمال عبدالعزيز أحمد

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية [email protected]