أيها الأحباب: كتب الله لنا ولكم حج بيته الحرام وأعتق رقابنا من النيران، وأعطى سبحانه بمنه كل قلب تمنى أن يطوف بالبيت العتيق سبعا، وأن يشاء الله عز وجل له أن يسعى بين الصفا والمروة، ثم يبلغ يوم عرفة ذلكم الموطن العظيم المبارك، الذي هو الحج الأكبر، كما قال الله تعالى عنه، (وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَومَ الحَّجِ الأَكبَرِ..) (التوبة ـ 3) ، يقول الطبري في (تفسير جامع البيان، ت: شاكر 14/ 113): (عن أبي الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن “يوم الحج الأكبر” فقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث أبا بكر بن أبي قحافة ـ رضي الله عنه ـ يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليّ، فقال: قم، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من “براءة”، ثم صدرنا، حتى أتينا مِنًى، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم، فمن ثَمَّ إخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة”. نعم إنه عرفات، وما أدراكم ما عرفات؟! إنه يوم تتفطر فيه الأفئدة، وتنيب فيه القلوب لرب البرية، ما من يوم عند الله تعالى أفضل منه، ولِمَ لا! وما أن تطلع شمسه على أهل الموقف فيه إلا وهم ينادون ربهم نداءً ظاهرًا وخفيًا صادقًا نقيًا، بقلوب منكسرة إلى الله تعالى تتذكر الذنوب بينها وبين خالقها، يجئرون للعلي الكبير من ذنوب تؤرقهم، أن يغفرها لهم، وأن يحط عنهم الخطايا، وتراهم تذرف أعينهم دموعها، وترجف قلوبهم من خوفها، وهم يقفون بين يدي الملك العليم بهم، ينسون الدنيا وما عليها ومن فيها، يقبلون على الله يناجونه وينادونه، وهم بين مخافتين: بين ماض أدبر يسألون الله أن يغفر لهم ما عملوا فيه، وبين مستقبل لم يأت يرجون ألا يعصونه فيه، تجد من يناجي مولاه فيما بينه وبينه أن يتجاوز عنه في حدود طالما تجاوزها، ومن يلجأ إلى ربه أن يمحو عنه محارم كثيرًا ما أصابها، ومن يعوذ بالله من مظالم لعباده أخذها وأصابها، وتجد منهم من يبرأ إلى ربه من حقوق لخلقه كانت عليه فضيعها ولم يرعها، وحق لهم أن يفعلوا ذلك، فإنها فرصة عظمى للعباد في ذلك الموقف، أن يتوجهوا إلى ربهم بقلوب خاشعة ذليلة منيبة، ويا الله ما أعظم هذا الموقف! فوالله لو أن كل إنسان منا استشعر عظمة تلك الساعة المباركة المستجاب فيها الدعاء)، (فيوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم، يكفر الله فيه الذنوب العظام، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال، قال ـ صلى الله عليه وسلم: (صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية)، (أخرجه في الصحيح)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم:(أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، وروى الدار قطني عن عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:(ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء)، وفي الموطأ عن عبيد الله بن كريز أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:(ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة). (تفسير القرطبي 2/ 419).. فاللهم بلغنا فضل هذا اليوم وتقبل فيه كل من دعاك ولا ترد من رجاك.
محمود عدلي الشريف