الأربعاء 04 يونيو 2025 م - 8 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: عندما يتحول الرغيف إلى شرك دموي

الاثنين - 02 يونيو 2025 07:24 م

رأي الوطن

90

لا يستشهد النَّاس في رفح باشتباك، ولا في فرار جماعي، ولا أثناء مقاوَمة، بل يستشهدون وهم واقفون على أمل الحصول على كيس طحين، أو علبة طعام تسندهم ليومَيْنِ إضافيَّيْنِ في هذا الجوع، الَّذي فرضَتْه دَولة الاحتلال الصُّهيوني، حيثُ استشهد ثلاثون فلسطينيًّا على الفَوْر، وأكثر من (120) جريحًا سقطوا بعد إطلاق نار مباشر قرب مركز مساعدات أميركيَّة، ولم يكُنْ هناك اشتباه ولا خطأ ولا تحذير، كانتِ الجريمةُ مقصودةً بكُلِّ تفاصيلها، والمشهد بدا وكأنَّه فخٌّ مُعدٌّ بإتقان، ماذا يعني أنْ تتجمَّعَ النَّاس في نقطة توزيع مساعدات، ثمَّ تأتيهم طائرات الاحتلال لِتصطادَهم كأنَّهم طرائد؟ أي عقل عسكري يرَى أنَّ الجوعى يُشكِّلون خطرًا؟ نحن لا نتحدَّث عن ضربة في منطقة معركة، بل عن إعدام في طابور انتظار مساعدات.. إنَّ صمتَ العالَم ليس مدهشًا، فقَدِ اعتَدْنا عَلَيْه، لكنَّ المروِّعَ هو أنْ تتحوَّلَ المساعدات نَفْسها إلى أدواتٍ للقتل، وأنْ تخرجَ رائحة الدَّم من علبة دقيق كان يفترض بها أنْ تكُونَ طوق نجاة لا شهادة وفاة. إنَّ الاحتلال لا يقتل فقط، لكنَّه يمنع سيَّارات الإسعاف من الوصول إلى موقع القصف، رغم أنَّه لا سيَّارات كافية، ولا ممرَّات آمِنة، ولا ضمان حتَّى لبقاءِ المُسعِف حيًّا، وطواقم الإنقاذ باتَتْ تخرج للعمل وكأنَّها في مُهِمَّة انتحاريَّة، فالاحتلال لا يكتفي بقتل الضَّحايا، وإنَّما يستكمل الجريمة بمنعِ إسعافهم، وكأنَّ المطلوبَ أنْ يظلَّ الجريح ينزفُ حتَّى يلفظَ أنفاسَه الأخيرة بلا حَوْلٍ ولا قوَّة، والجريمة هُنَا لا تتوقف عِندَ عددِ الشُّهداء، بل تشمل استهداف كُلِّ خيطٍ قَدْ يَقُودُ إلى النَّجاة، العالَم كُلُّه شاهدَ ذلك ولم يُحرِّكْ ساكنًا، كيف يقتل الإنسان في نقطة إغاثة، ثمَّ يُمنع إسعافه، ولا تهتزُّ المنصَّات الأُمميَّة ولا تستقيل منظَّمة واحدة؟ هذا ليس صمتًا سياسيًّا، بل طعن في قلبِ كُلِّ قِيمة تدَّعيها المنظَّمات الَّتي ترتدي قناع الإنسانيَّة بَيْنَما تتواطأ بالصَّمتِ أو العمَى الانتقائي. ما يجري في قِطاع غزَّة ليس مجرَّد قصفٍ عشوائي أو ردود فعل عسكريَّة، بل تنفيذ لسياسة إبادة مكتملة الأركان، تَسير بخطواتٍ متعمَّدة، وبمراحل محسوبة بدقَّة، تجويع، حصار، قصف، ثمَّ انتظار المُصابِينَ حتَّى يموتوا؛ لأنَّ الإسعاف ممنوع، هذه ليسَتْ مشاهد من تاريخ بعيد، بل وقائع تُبَثُّ لحظةً بلحظة، ولا يُمكِن لأيِّ عقلٍ راشد أنْ يقتنعَ بأنَّ منظَّمات الإغاثة الكبرى لا تَعْلَمُ بوجودِ هذه المصائد البَشَريَّة، فمَن الَّذي حدَّد نقطة توزيع المساعدات؟ ومَن نسَّقَ موعد الحضور؟ ومَن أعطَى الضَّوء الأخضر؟ ومَن تخلَّى بعد المجزرة عن مسؤوليَّته؟ فالصَّمتُ المُتكرِّر، والإصرار على استخدام نَفْسِ آليَّة التَّوزيع رغم تكرار المجازر، يجعل بعض تلك المنظَّمات شريكةً بالسُّكوت، وأُخرى بالتَّواطُؤ، وثالثةً بالمعلومة.. نحن أمام مذبحة يتمُّ تجهيزها لوجستيًّا باِسْمِ الإغاثة، ثمَّ تُنفَّذ عسكريًّا بوَسْمِ القاتل الَّذي يعرف جيِّدًا أين يضرب، ومتى، ولِمَن ينسبُ الجريمة لاحقًا. ما يعجز عَنْه القصف تُنفِّذه السِّياسة، وما لا تَقْدر عَلَيْه الرَّصاصة يتكفله التَّجاهل الدّولي، فلم يَعُدِ الصَّمتُ موقفًا، بل صار خِطابًا عالَميًّا مُوَحَّدًا، تَختبئُ خَلْفَه الدوَل الَّتي تتشدَّق بـ(حقوق الإنسان) في النَّهار، وتوقِّع صفقات السِّلاح مع الكيان الصُّهيوني في اللَّيل. غزَّة اليوم لم تَعُدْ تُواجِه آلةَ القتلِ وحْدَها، بل آلة النِّفاق الدّولي بكامل عدَّتها، كُلُّ دَولة لم تُدنْ هذا الاستهداف شريكة فيه، وكُلُّ منصَّة إعلاميَّة تُساوي بَيْنَ القاتل والضَّحيَّة تُمارس الخيانة المهنيَّة والإنسانيَّة، حتَّى العالَم الَّذي يراقب صمتًا، ثمَّ يرفع تقارير (قلق) لا يفعل شيئًا سوى غسلِ يدَيْه من الدَّم، رغم أنَّه غارق حتَّى معصمَيْه، لكنَّ الدَّمَ الفلسطيني ليس ماءً، ولن يذهبَ هدرًا؛ لأنَّ في كُلِّ رصاصةٍ قصَّةً، وفي كُلِّ مجزرةٍ شاهدًا، وفي كُلِّ شهيدٍ نارًا تسكنُ الضَّمير العربي، وتحفر عارًا في جَبِينِ الإنسانيَّة الَّتي كذبتْ عَلَيْنا طويلًا.