الأربعاء 04 يونيو 2025 م - 8 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

جدارات المستقبل

جدارات المستقبل
الاثنين - 02 يونيو 2025 05:23 م

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

20

ما يميِّز الإنسان عن غيره من الكائنات أنَّه كائن أُوتي قدرة كبيرة على التَّعلُّم، والتَّطوُّر، والتَّمييز، والاختيار. وقد سخَّر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ له ما في الأرض وما فوقها وهيَّأ له الأسباب لِيكُونَ جديرًا ومؤهلًا لحملِ أمانة الاستخلاف. فبامتلاكه المعرفة والعقل (العِلم) وبسيطرته على مقدّرات الأرض وثرواتها (المال) يعمِّر الأرض ويصلحها وينمِّي إمكاناتها أو قد يفسدها ويضيعها. وحيثُ إنَّ الإنسان كائن أوتي ملكات عُليا للتَّعلُّم وقدرات واسعة تُمكِّنه من الاختيار فهو في تطوُّر مستمر ونماء مستدام، وهو كذلك معرَّض لانتكاسات ولحالات ضعف وتهاون قد ترجعه إلى مستويات أدنى. حضارة الإنسان ـ على المستوى الكُلِّي ـ في تصاعد وتقدُّم مستمرٍّ بدءًا من العصر الحجري وانتهاءً بعصر الذرَّة. إلَّا أنَّها مرَّتْ وتمرُّ بمراحل ودَوْرات زمنيَّة يتعاقب عَلَيْها تقدُّم وازدهار ثمَّ تراجع وانكفاء. يستعين الإنسان في إعمار الأرض وتسخير مقدّراتها لصالحِه بعِلم يكتسبه وعقل يصقله بالتَّجارب ومهارات يطوِّرها بالخبرات والممارسة فيصبح جديرًا وقادرًا ومنجزًا. كثيرًا ما نَعدُّ المهارات مقاييس للقدرة على إنجاز عمل أو تقديم خدمة أو إنتاج منتج. فالمهارة هي طريقة إنجاز مُهِمَّة أو عمل وتزداد دقَّة وجَوْدة بكثرة الممارسة وتتطوَّر في مجالها. الجدارة هي مرادفة للمهارة غير أنَّها أشمل وأوسع فهي تتضمن طرائق الإنجاز وأساليب التَّأثير. ويُمكِننا أيضًا اعتبار أنَّ الجدارة تَقُوم على توظيف مهارات متعدِّدة أو استبدال مهارات بأخرى مع الأخذ بممكنات الإنجاز الأخرى ككفاءة التَّواصُل والقدرة على التَّحليل والإدارة الكفؤة للتَّغيير. يشهد العصر الحديث تحَوُّلَات متسارعة طالتْ كُلَّ مناحي الحياة وهي في أغلَبِها نتاج تأثير التَّقدُّم التِّقني على أداء الأعمال ووسائل التَّواصُل وطرائق العمل وأساليب الإنجاز. وقد قصَّرت هذه التَّحَوُّلات فترات صلاحيَّة كثير من المهارات وأفقَدَتْها قِيمتها وأهميَّتها. من هذه التَّحَوُّلات الفارقة استبدال العمل اليدوي بالآلات والأجهزة وتغيُّر دَوْر الإنسان من العمل الحِرفي اليدوي والذِّهني المهاري إلى إدارة عمل هذه الآلات والأجهزة وتوجيهها والتَّحكُّم بها. وقد يتطلب ذلك تطوير مهارات وقدرات جديدة تعتمد على اكتساب معارف أعمق ومدارك أشمل وقدرات ذهنيَّة أكثر توقُّدًا. بالتَّوازي مع التَّغيُّر المستمر في المهارات حتَّم دعم المهارات التَّخصُّصيَّة بمهارات أدائيَّة وتفاعليَّة وتطويريَّة وقياديَّة ضروريَّة وأساسيَّة لإنجاز الأعمال والمهِمَّات. وعَلَيْه فإنَّ مصطلح الجدارة (جمعها جدارات) أدقُّ توصيفًا لمقاييس الإنجاز والأداء والجهد البَشَري المنجز للأعمال والمهِمَّات والمسؤوليَّات من مصطلح المهارة. إن كانتِ الجدارة تتطلب اكتساب وتطبيق مهارات تخصُّصيَّة مُتعدِّدة فإنَّ الجدارات الكميَّة (اقتباسًا من مفهوم فيزياء وميكانيكا الكمِّ) تربط بَيْنَ جدارات في مجالات مختلفة وتكامليَّة ولها تأثيرات متبادلة حسب نُظم أكثر شموليَّة وترابطيَّة. وبناء على ما سبَق فيُمكِننا القول إنَّ التَّحَوُّلَ الأدائي يدفع باستبدال مفهوم المهارة بمفهوم الجدارة ثمَّ يرتقى بمفهوم الجدارة التَّخصُّصيَّة إلى الجدارة الكميَّة التَّكامليَّة والمَرِنة والمُتطوِّرة. يطوِّر الإنسان وينمِّي قدراته وإمكاناته من خلال اكتساب معارف في حقل معرفي أو تخصُّص مهني معيَّن ومن خلال بناء خبرات في ذات الحقل والتَّخصُّص. نظرًا للتَّطوُّر والتَّحَوُّل الحضاري أصبحتِ المهارات التَّخصُّصيَّة غير كافية بذاتها للإنجاز، بل تتطلب دعمًا بأخرى أشمل وأوسع كالمهارات الفنيَّة العملياتيَّة، والأدائيَّة، والتَّفاعليَّة، والتَّطويريَّة، والقياديَّة. لم يَعُدْ مجديًا ومناسبًا قيام المهني أو الحِرفي أو المُتخصِّص بإنجاز عمله وأداء مُهِمَّته بمعزلٍ عمَّا حَوْلَه وعن الاعتبارات الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والمُجتمعيَّة، والبيئيَّة، والتقنيَّة، وغيرها. فقَدْ قلَّ أو تلاشَى أغلَبُ العمل والأداء الفردي وحلَّ محلَّه عمل تشاركي متطوِّر باستمرار يزداد فيه المحتوى المعرفي المُتجدِّد والتقني الابتكاري والسُّلوكي التَّفاعلي. وعلى ذلك فإنَّ الجمود المهني والتَّشبُّث بالمكتسب الحِرفي والانغماس التَّخصُّصي لم يَعُدْ مناسبًا لطرائق عمل المستقبل ولا مجديًا. محافظة الحِرفي على مهاراته الحِرفيَّة الَّتي ورثَها عن آبائه وأجداده بِدُونِ تطوير لها أو استبدالها أو تجويدها وتحسينها بمدخلات معرفيَّة جديدة وتقنيَّات حديثة سيفقد الحِرفي القدرة على الاستمرار والمنافسة ومُواكبة التَّغيُّرات. شهدَ العمل الحِرفي والمِهني تحَوُّلات كبيرة غيَّرت من التزام الحِرفي والمِهني بحِرفته أو مِهنته مدى عمره كُلِّه وتوريثه لأبنائه وأحفاده إلى حتميَّة استبدال المِهنة والحِرفة بأخرى؛ ذلك نظرًا لفقدانِ تلك الحِرفة أو المِهنة قِيمتها أو لتغيُّرِ ملامحها وأدواتها ومخرجاتها. تبدّل الاحتفاء بإتقان ومرجعيَّة المِهني والحِرفي إلى الاحتفاء بقدرتهما على التَّطوير والتَّجديد وعلى مواكبة التَّسارع التِّقني والمعرفي ومُواكبة لرغبات واحتياجات المستفيدِين. في عالَم اليوم (بوَّابة المستقبل) المتغيِّر المدفوع بتسابُق تقنٍّي محموم ومتغيِّرات عميقة في أساليب العمل وطرائق الإنجاز لم يسلمْ كثير من المِهن والحِرَف من تحَوُّلات جذريَّة وتغيُّرات متسارعة. فلم يَعُدِ العمل الهندسي ـ مثلًا ـ كما كان في الماضي معتمِدًا على مهارات المهندس في التَّصميم وقدراته في ابتكار الحلول الهندسيَّة من خلال وضع وابتكار تصوُّرات وتحليلها ورُبَّما اختبارها وتجريبها في مواقع العمل مستفيدًا من الخبرات التراكميَّة والممارسة الميدانيَّة. فقَدْ توافرتْ لدَى المهندس أدوات كثيرة ـ كالذَّكاء الاصطناعي ـ تُغْنيه عن كثير من عناء جمع المعلومات وتحليلها والتَّجريب لاختبار نجاعة الحلول ومتانة التَّصميم وجَوْدة التَّنفيذ وما يتطلبه ذلك من بناء خبرات عمليَّة واسعة وعميقة ضروريَّة لإنجاز العمل الهندسي. لقد تحَوَّلَ العمل الهندسي من مباشرة القيام بكُلِّ متطلباته الفنيَّة والعملياتيَّة والتَّنفيذيَّة إلى كفاءة استخدام وتسخير التقنيَّات الحديثة وطرائق العمل المستحدثة وأساليب إدارة الجهد الجماعي التَّشاركي الَّذي يجمع ذوي اختصاصات مختلفة ويستعين بتقنيَّات وأدوات مُتعدِّدة. العمل والإنجاز والتَّطوير في المستقبل يتطلب جدارات مُتجدِّدة تحمل مفهومًا أوسع وأشمل من مفهوم المهارات، كما سبَق بيانه. جدارات المستقبل ترتكز على مرتكزيْنِ أساسَيْنِ ومتكاملَيْنِ. أوَّلهما الجدارات الفرديَّة (الشَّخصيَّة) وثانيهما الجدارات الجماعيَّة (عمل وأداء الفريق). وكلا النَّوْعَيْنِ من الجدارات يتضمَّن مفهوم الجدارات الكميَّة (ترابط وتكامل بَيْنَ مهارات وجدارات مُتعدِّدة). وقد طغَى خلال السَّنوات الأخيرة الاهتمام بالتَّنمية البَشَريَّة وتطوير الذَّات وذلك باكتساب مهارات الأداء الشَّخصي والتَّفكير الإيجابي وتقوية الدَّافعيَّة وغيرها من المهارات العاطفيَّة والسُّلوكيَّة. هذا الاهتمام هو انعكاس لإدراك أهميَّة ومحوريَّة تقوية وتعظيم الاستفادة من القدرات الذِّهنيَّة والسُّلوكيَّة الذَّاتيَّة الكامنة لدَى النَّاس وأيضًا لإدراك قصور المهارات الفنيَّة والإداريَّة البحتة. غير أنَّ ما يُؤخذ على برامج التَّنمية البَشَريَّة وتطوير الذَّات هو نَفْسه ما شابَ وأضْعفَ الاعتماد على المهارات الفنيَّة والحِرفيَّة والتقنيَّة البحتة. وذلك لتجاهل التَّكامل بَيْنَ النَّوْعَيْنِ من المهارات. هذا التَّكامل يُعالجه مفهوم الجدارات والجدارات الكميَّة وهذا هو متطلب أساس لتأسيس جدارات المستقبل. جدارات المستقبل هي جدارات متكاملة تجمع بَيْنَ المعرفة التَّخصُّصيَّة الفنيَّة وبَيْنَ القدرات الذِّهنيَّة والسُّلوكيَّة الفرديَّة وبَيْنَ فَهْمِ العلاقات التَّرابطيَّة والتَّأثيريَّة المتبادَلة وتضمّن مبدأ التَّفاعل والتَّرابط بَيْنَ منظومات الأداء والإنجاز المختلفة. وهناك بُعد آخر لجدارات المستقبل وهو التَّغيُّر والتَّطوُّر المستمرَّانِ وقِصر الدَّوْرات الحياتيَّة ـ إنْ صحَّ التَّعبير ـ للمهارات والجدارات وأساليب العمل وطرائق الإنجاز. وعلى ذلك فإنَّ جدارات المستقبل تتطلب الالتزام باحترافيَّة عالية وببناء مُرونة كبيرة وقدرة على استجابات سريعة للمتغيِّرات التقنيَّة والتَّحَوُّلات المتسارعة. قد يقول قائل إنَّ الدَّعوة إلى التَّفاعل الدَّائم والاستجابة السَّريعة ومجاراة التَّحَوُّلات المتسارعة سيُحدث فَوضى وارتباكًا وعدم يقين بَيْنَما الاستقرار والثَّبات هما أساس التَّقدُّم المنضبط والتَّحكُّم المانع لانفلات الأمور وفقدانِ السَّيطرة. وللإجابة على هذا التَّوجُّس عَلَيْنا أوَّلًا إدراك أنَّنا فقَدْنا السَّيطرة على والتَّحكُّم في التَّغيير فلا أحَد يستطيع ـ مهما أُوتيَ من قوَّة وإمكانات ـ وقْفَ عجلة التَّغيير وتجميد مسار التَّحَوُّلات فقَدْ أصبحتْ واقعًا معاشًا. وعَلَيْنا التَّعامل مع التَّغيير وليس مجابهته أو تجاهله. ثانيًا الحركة والتَّطوُّر المستمرَّان هما سِمات الحياة ويتناسبان مع طبيعة الإنسان والكون من حَوْلِه. وإنْ تسارعتْ وتيرة التَّغيُّرات فإنَّ عَلَيْنا التَّعامل معها بكفاءة وبإيجاد ضوابط تضبطها وتُوجِّهها التَّوجيه الصَّحيح ولا يتحصَّل ذلك إلَّا من خلال تجويد أساليب إدارتها والتَّعامل معها. وعلى ذلك فإنَّ بناء جدارات المستقبل بتكاملها ومُرونتها وتسخيرها للتقنيَّات وأساليب العمل المُتجدِّدة وتوظيفها لقدرات الإنسان الكاملة وتفجيرها لطاقاته الكامنة هو ضرورة حتميَّة وليس فقط خيارًا متاحًا. ولا يتمُّ هذا إلَّا من خلال عمل مؤسَّسي تكاملي وجهد معرفي اختصاصي وتفكير نقدي إبداعي لا يعتمد على جهود فرديَّة متناثرة، بل يقع الدَّوْر الأكبر والمسؤوليَّة الأعظم على عاتق مؤسَّسات الدَّولة التَّنظيميَّة والتَّشريعيَّة والتَّطويريَّة والبحثيَّة ومؤسَّسات المُجتمع المسؤولة والمؤهَّلة لذلك.

د. سلطان بن سعيد الشيذاني

مدير تنفيذي سابق بشركة تنمية نفط عمان

ورئيس سابق لجمعية المهندسين العمانية