في زحمة الحياة وضجيجها، قد لا ندرك كم تُشكِّل الصَّداقة رئة ثالثة نستنشق بها الحياة. هي ليسَتْ علاقةً عابرة ولا ترفًا اجتماعيًّا نُمارسه على هامش الأيَّام، بل هي رابط كيميائي وعاطفي يُحافظ على توازن النَّفْس، يُرمِّم ما لا تراه الأشعة، ويُعيد الإنسان إلى ذاته كُلَّما تاه بَيْنَ تفاصيل الحياة. الطِّب الحديث، رغم دقَّته وتقدُّمه، لا يزال يعجز عن قياس الأثر الحقيقي للصَّديق في تحسين جَوْدة حياة الإنسان. وبالواقع هنالك دراسات مُتعدِّدة أثبتَتْ أنَّ الأصدقاء الحقيقيِّين يُخفِّفون من ضغط الدَّم، يُقلِّلون من التَّوتُّر، ويرفعون معدَّلات الشِّفاء بعد الجراحات والأزمات النَّفْسيَّة. لكن ما لم يُقَلْ كثيرًا هو ماذا يحدُث للجسد والنَّفْس حين يغيب هذا الصَّديق؟ حين يخطفه الموت أو يُغلق الزَّمن بابه فجأة، ويتركنا في صمتٍ لا يسمع؟ وهكذا فالحزن على صديق راحل يُشبه كسرًا داخليًّا لا يرى في الأشعَّة، لكنَّه يوجع في كُلِّ نَفْس. بل وتختلف ملامحه أحيانًا عن الحزن على الأقارب؛ لأنَّه حزن نابع من رابط اختياري، نقي، غير مشروط، صنع من الضَّحكات المشتركة، والذِّكريات العابرة، واليَدِ الَّتي امتدَّتْ دُونَ حساب. لذلك ومن منظور طبِّي، فإنَّ فقدان الصَّديق لا يُسبِّب ألَمًا نَفْسيًّا فحسب، بل ينعكس على الجسد بأعراض ملموسة مثل ضعف المناعة، الأرق، اضطراب في ضربات القلب، وقد يصل في بعض الحالات إلى متلازمة القلب المنكسر، وهي حالة فسيولوجيَّة تُصيب عضلة القلب نتيجة الحزن الشَّديد، تظهر كيف أنَّ المشاعر القويَّة قادرة على تشكيل الأمراض، تمامًا كالفيروسات. وبالتَّالي أن تفقدَ صديقًا هو أن تفقدَ شاهدًا على فصول عمرك. أن تغيبَ تلك العَيْنُ الَّتي كانتْ تراك عِندَما لا يراك أحَد، وتغيبَ الرُّوح الَّتي كانتْ تلتقط نبضك من نبرة صوتك فقط، وقد أقول هنا إنَّه هو ذلك الفراغ الَّذي لا يُملؤ، لكن يُمكِن التَّعايش معه. أتذكَّر مريضًا مُسنًّا قال لي بعد فقدانه لأعزِّ أصدقائه: غابَ صوته، لكنَّني ما زلتُ أسمعُه في صَمْتي. حينها أدركتُ أنَّ الأصدقاء لا يموتون فعليًّا، بل يتحولون إلى طبقة خفيَّة من الوجود، تهمس لنَا وقت الحاجة، وتحنو على أرواحنا دُونَ أن نشعرَ. ورُبَّما في هذا بعض العزاء: أنَّ مَن نُحبُّهم حقًّا لا يغادرون، بل يسكنوننا إلى الأبد! ولذلك، لا عجب أن يصابَ البعض بعد فقدان الأصدقاء المُقرَّبِينَ بما يعرف بـاضطراب الحزن المطوَّل، والَّذي اعتمدتْه الجمعيَّة الأميركيَّة للطِّب النَّفْسي في النُّسخة المعدَّلة من دليلها التَّشخيصي في عام ٢٠٢٢. وحقيقة هذا الاضطراب يتمثل في شعور عميق ومستمرٍّ بالحزن والفراغ لأكثر من عام، بل ويؤثِّر على قدرة الفرد في أداء وظائفه اليوميَّة. وواقعيًّا الدِّراسات العلميَّة الحديثة أثبتَتْ أنَّ الرَّوابط الاجتماعيَّة القويَّة تُقلِّل خطر الوفاة بنسبة تصل إلى خمسين بالمئة. كيف لا؟ والشُّعور بالوحدة يعادل في تأثيره الصحِّي السّلبي تدخين خمس عشرة سيجارة يوميًّا. وهذا يؤكِّد أنَّ الصَّداقة ليسَتْ فقط ترفًا عاطفيًّا، بل عامل بيولوجي مؤثِّر في الصحَّة العامَّة، والنَّفْسيَّة مِنْها على وَجْه الخصوص. من ناحية أخرى قَدْ يكُونُ من العزاء أن نُحَوِّلَ فَقْدَهم إلى عمل. فمثلًا أنْ نُسميَ مبادرة باِسْمِهم، وأن نهديَ نجاحًا لصورتهم، أو نخبرَ أبناءنا عَنْهم. ثمَّ فنحن حين نُخلِّدهم، فإنَّنا نُعيدهم للحياة بصيغة أُخرى. بلا شك لقَدْ كانوا نورًا في حياتنا، وغيابهم لا يعني انطفاءهم، بل انتقالهم من الخارج إلى الدَّاخل، من الصَّوت إلى الصَّدى، من الجوار إلى القلب. ختامًا، الصَّداقة الحقيقيَّة لا تُقاس بطولِ السَّنوات، بل بعُمق التَّأثير. وإن كان الصَّديق قَدْ رحَلَ، فإنَّ ما زرعَه فِينَا من دِفء، ومن صِدق، لا يموت. بل يعيش، ويكبر، ويضيء دروبنا حين تشتدُّ الظُّلمة. فأولئك الأصدقاء، وإن غابوا، يبقَون في القلب، وفي الدُّعاء، وفي الحياة الَّتي تستمرُّ بهم رغم الغياب.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي