تواجه منظَّمة الصحَّة العالَميَّة أزمة ماليَّة غير مسبوقة، مع عجز متوقع في ميزانيَّتها يُقدَّر بـ(1.7) مليار دولار خلال العامين المقبلين. هذا النَّقص، النَّاتج جزئيًّا عن انسحاب الولايات المُتَّحدة المفاجئ من التَّمويل، بدأ يترك آثارًا قاتلة في أنحاء العالَم. أكثر من (70) دَولة باتتْ تشهد العواقب: مراكز صحيَّة تُغلق، عاملون صحيون يُسرّحون، والمرضى يجبرون على دفع تكاليف العلاج من جيوبهم، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. واصفًا الوضع، قال المدير العام للمنظَّمة، الدكتور تيدروس أدهانوم جيبريسوس: «هذا تهديد مباشر للأمن الصحِّي العالَمي». من أكثر الآثار المأساويَّة انهيار برامج تغذية الأطفال. ففي شمال شرق نيجيريا، توقفتْ مراكز التَّغذية العلاجيَّة الَّتي كانتْ مموَّلة من المساعدات الأميركيَّة. الأطفال المصابون بسُوء تغذية حادٍّ يُتركون الآن للموت دُونَ علاج. ووفقًا لوكالة أسوشيتد برس، قد يُحرم نَحْوَ مليون طفل حَوْلَ العالَم من العلاج، ما قد يؤدي إلى وفاة أكثر من (160) ألفًا مِنْهم سنويًّا. لكنَّ الكارثة لا تتوقف عِندَ الجانب الإنساني؛ بل تمتد إلى بنية الصحَّة العالَميَّة نفسها. فقَدِ اضطرتِ المنظَّمة إلى تقليص ميزانيَّتها التَّشغيليَّة بـ(700) مليون دولار. يجري الاستغناء عن موظفين، وتُجمَّد برامج مراقبة الأمراض، وتتباطأ جهود التَّصدِّي لِتَفشِّي أوبئة مثل جدري القردة والكوليرا، ممَّا يرفع خطر تحَوُّلها إلى أزمات عابرة للحدود. وقد أدَّى الفراغ المالي إلى تحَوُّلات جيوسياسيَّة لافتة. فقَدْ تعهَّدتِ الصِّين بتقديم (500) مليون دولار خلال خمس سنوات لسدِّ جزء من العجز. ورغم أنَّ هذا التَّمويل قد يُبقي بعض البرامج قائمة، إلَّا أنَّه يثير تساؤلات حَوْلَ تغيُّر موازين النُّفوذ في قيادة الصحَّة العالَميَّة. تقول الدكتورة لينا خطيب، وهي محلِّلة في شؤون الصحَّة العالَميَّة: «انسحاب الولايات المُتَّحدة تركَ فراغًا في القيادة، واستثمار الصِّين ليس فقط لدوافع صحيَّة، بل هو تحرُّك محسوب في إطار القوَّة النَّاعمة». في البُلدان الَّتي تعتمد على دعم المنظَّمة، تتعرض حتَّى الخدمات الأساسيَّة مثل التَّطعيمات ورعاية الأُمومة للخطر. وتتسع الفجوة في العدالة الصحِّيَّة بَيْنَ الدوَل الغنيَّة، الَّتي تجاوزتْ مرحلة «كوفيد-19»، والدوَل الفقيرة الَّتي تواجه موجةً جديدة من المعاناة. تكشف أزمة منظَّمة الصحَّة العالَميَّة عن هشاشة مقلقة في النِّظام الصحِّي العالَمي، القائم بشكلٍ مفرط على تبرُّعات طوعيَّة تخضع غالبًا للمزاج السِّياسي. وإن لم يتمَّ التَّحرُّك الدّولي سريعًا، فقَدْ نخسر عقودًا من التَّقدُّم الصحِّي. وقال الدكتور تيدروس: «نحن لا نطلب صدقة، بل نطلب استثمارًا في الإنسانيَّة». وإن لم يُستجب لهذا النِّداء، فإنَّ العالَم سيدفع ثمنًا يفوق بكثير ما يُمكِن قياسه بالدولار.
طارق أشقر
من أسرة تحرير «الوطن»