الثلاثاء 03 يونيو 2025 م - 7 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن: جهود تنموية تصنع الفارق

الأحد - 01 يونيو 2025 07:24 م

رأي الوطن

50

حين تُذكر (اللامركزيَّة) يظنُّ البعض أنَّنا بصددِ مصطلح إداري بارد، من تلك الكلمات الَّتي تكثر في خطط الحكومات ولا تدخل حياة النَّاس. لكنَّ الواقع يقول شيئًا آخر تمامًا، فمَن يعيش في ولاية بعيدة عن العاصمة، يعرف جيِّدًا معنى أنْ ينتظرَ القرار من مكان لا يعرفُ وجوهَ النَّاس، ولا يسمعُ صوت السُّوق، ولا يرى الطَّريق الَّذي تهالَك منذُ سنوات. وفي عُمان بدأ هذا الفَهْمُ يتغيَّر، ولم تَعُدِ المحافظات تنتظر توجيهًا من الأعلى لِتبدأَ في الحركة، فالرُّؤية السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ خلقتْ وعيًا جديدًا بدأ يتشكَّل بهدوء، فمَن يعرفُ الأرض أقْدَر على حرثِها، ومَن يُعايش التَّفاصيل أصْدَق في ترتيب أولويَّاتها؛ لذا بدأنا في إعادة توزيع الثِّقة، وإعطاء الإدارة المحليَّة حقَّ أنْ تُفكِّرَ، وتُقرِّرَ، وتتحمَّلَ المسؤوليَّة؛ لأنَّ المركز لن يلمسَ النَّبض كما يلمسُه مَن يعيشُ هناك كُلَّ يوم. لا تحتاج محافظة الدَّاخليَّة إلى مَن يصفُها بكلمات منمَّقة، فالأرقام تتحدَّث عن نَفْسها وعن المشاريع، والنَّشاط اليومي الَّذي تشهدُه ولاياتها، فقَدِ استطاعتِ المحافظة تنفيذ (112) مشروعًا متنوِّعًا في عام واحد، وهذا التَّنوُّع في المشاريع، من تطوير البنية الأساسيَّة إلى تحسين الأسواق، ومن تعزيز التَّعليم والصحَّة إلى دعم البيئة الاستثماريَّة، يعكس فَهْمًا حقيقيًّا لمفهومِ التَّنمية المتوازنة، والأهمُّ من ذلك أنَّ هذه المشاريع أضحتْ ثمرةً مباشرة لصلاحيَّات المحافظ الجديدة، وفريق عمله، وخريطة احتياجات تمَّ إعدادها من الميدان. فحين تمشي في نزوى، أو تمرُّ بسُوق بهلاء، أو ترَى ما تمَّ في سمائل، تشعُر أنَّ هناك عقلًا تنمويًّا محليًّا باتَ فاعلًا، فالتَّوجيهات السَّامية حين قرَّرتْ توسيع صلاحيَّات المحافظين، لم تكُنْ تجرِّب فكرة، لكن كانتْ تؤمن بأنَّ لكُلِّ محافظة حقًّا في أنْ تُفكِّرَ وتنتجَ، لا أنْ تنتظرَ، والدَّاخليَّة ـ بكُلِّ ما فيها ـ جسَّدتْ هذه القناعة فعلًا وقولًا. إذا كانتِ الطُّرق والمدارس والمراكز الصحيَّة هي العمود الفقري للتَّنمية، فإنَّ دعم الاقتصاد المحلِّي هو قَلبُها النَّابض، وهنا تحديدًا أظهرتْ محافظة الدَّاخليَّة ـ شأنها شأن بقيَّة محافظات سلطنة عُمان ـ وعيًا واضحًا بضرورة تعزيز الأنشطة الَّتي تُبقي المال داخل المُجتمع، وتنشط الحِرَف، والمشاريع الصَّغيرة، والتِّجارة المحليَّة، فبدعم السُّوق التَّقليدي، وإطلاق فعاليَّات ثقافيَّة وسياحيَّة موسميَّة، وتحديث بنية الأسواق، وتجهيز المساحات العامَّة، تتضح استراتيجيَّة لا تعتمد فقط على التَّمويل الحكومي، لكن على تحفيز المُجتمعات نَفْسِها لِتنتجَ وتُنافسَ وتُضيفَ، وهذا النَّوْع من التَّنمية ينتجُ استقرارًا؛ لأنَّه يربط المواطن بمكانه، ويُشعره بأنَّ ما يبنيه سيَعُودُ إِلَيْه، لقَدْ تحوَّلتِ الإدارة المحليَّة من جهة تراقب إلى فاعل اقتصادي، يُحسن اختيار الأولويَّات، ويُدير الموارد بحكمة، ويصنع أثرًا يبقى، وما تَقُوم به محافظة الدَّاخليَّة ـ كغيرها من محافظات سلطنة عُمان ـ هنا يستحقُّ الاحترام؛ لأنها تحوَّلتْ من محافظات قَدْ تكُونُ عبئًا على المركز، إلى رافعة اقتصاديَّة حين مُنحتِ الفرصة. إنَّ تطبيق اللامركزيَّة في سلطنة عُمان يجعلنا لا نتحدثُ عن تجديد إداري محدود، لكن عن مسار طويل يُعِيدُ بناء العلاقة بَيْنَ الدَّولة والمواطن على أساسٍ أكثر قربًا وعدالة. فحين تمنح الحكومة صلاحيَّات واسعة للمحافظات، فإنَّها تُراهن بشكلٍ مباشر على الكفاءات المحليَّة، وعلى قدرة المُجتمع في كُلِّ ولاية على أنْ يُديرَ مصالحَه بتوازنٍ، هذه الثِّقة حصيلة نُضجٍ سياسي، وتجربة طويلة مع المركزيَّة الَّتي أثبتتْ أنَّها لم تَعُدْ كافيةً وحْدَها، والنَّتائج الَّتي بدأتْ تظهر في الدَّاخل، سواء في محافظة الدَّاخليَّة أو في محافظات أخرى، تُشير إلى أنَّ الرُّؤية الجديدة تَسير في الاتِّجاه الصَّحيح. لكنَّ المُهمَّ الآن هو الاستمراريَّة، ووضع التَّشريعات اللازمة لضمانِ صلابة هذا النموذج، فالدَّولة العصريَّة لا تَقُومُ على المركز وَحْدَه، لكنَّها قائمة على شبكة متماسكة من الوحدات القادرة على اتِّخاذ القرار وتحمُّل نتائجه، وهذا ما بدأتْ عُمان تُتقنُه بهدوءٍ وذكاء.