يتَّجه النِّظام الدّولي الرَّاهن شيئًا فشيئًا باتِّجاه ما يُطلق عَلَيْه بتعدديَّة قطبيَّة فضفاضة، أو رُبَّما نَحْوَ ما يُطْلق عَلَيْه بنظام حُكم الكثرة، خصوصًا في ظلِّ بروز العديد من القوى الدّوليَّة المؤثِّرة في الأحداث الدّوليَّة، وهو نظام هجين متقلِّب الطِّباع شديد الفوضى والاضطراب، تُحرِّكه الكثرة غير المتجانسة من الدوَل باختلاف أحجامها ومستوياتها من القوَّة والهيمنة والنُّفوذ والسُّلطة، حيثُ يُمثِّل إلى حدٍّ بعيد «طيفًا متباين الألوان من التَّحالفات وعلاقات الخصومة المُتشكِّلة حَوْلَ مئات القضايا والمُشْكلات وعلى مختلف الأصعدة». وبمعنى آخر، وكما يؤكِّد ذلك سيوم براون، إنَّ «عالَم اليوم بعيدٌ كُلَّ البُعد عن أن يكُونَ أحاديًّا قطبيًّا مطَّردًا، على الرّغم من وضوح كون الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة هي القوَّة المسيطرة في النِّظام، كما أنَّ هناك سلسلة طويلة من سِمات وملامح حُكم الكثرة المُتحدِّية لها: وثمَّة أنماط مختلفة من السُّلطة، وتشكيلة واسعة من الجهات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة المتمتِّعة بهذه السُّلطة، والصَّداقات والعداوات المُتعدِّدة والمُتداخلة، حيثُ يُمكِن للأصدقاء والأعداء أن يختلفوا تبعًا للقضيَّة المطروحة». والمُتتبِّع لمُجريات الأحداث على المسرح الدّولي يتأكد له ذلك بشكلٍ واضح حيثُ لا تخلو قارَّة من قارَّات العالَم اليوم من أزمة طاحنة في السِّياسة والعلاقات الدّوليَّة، سواء كان ذلك على المستوى الدّاخلي للقارَّة نَفْسها أو حتَّى على صعيد علاقات وحداتها السِّياسيَّة ببقيَّة الوحدات السِّياسيَّة الدّوليَّة في مختلف أرجاء العالَم. ولعلَّ الشَّرق الأوسط (الممثِّل الآسيوي) على وَجْه الخصوص نال النَّصيب الأكبر من آثار ونتائج هذه المرحلة الانتقاليَّة الَّتي يمرُّ بها العالَم؛ نظرًا لوقوعه في قلْبِ الأحداث الدّوليَّة، أو لكونه يُمثِّل ملتقى أو تقاطع تلك المصالح، أو رُبَّما يُراد له أن يكُونَ على هذا الحال بسبب موقعه الجيوسياسي الحسَّاس. وعِندَما نقول مرحلة دوليَّة انتقاليَّة فنحن بذلك نقصد ونؤكِّد أنَّها تلك الفترة الَّتي بدأتْ فيها «المركزيَّة أو القطبيَّة الأحاديَّة» للولايات المُتَّحدة الأميركيَّة بالتَّراجُع نسبيًّا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م، وما زالتْ تَسير في هذا الاتِّجاه في وقتٍ بدأتْ فيه قوى أخرى تدخل السَّاحة الدّوليَّة كمنافسٍ للقوَّة والهيمنة الأميركيَّة، سواء من القوى الَّتي انتقلتْ معها من العقود الماضية كالصِّين وروسيا، فيما يُطلق عَلَيْه بالتَّنافس الدّولي على مراكز السُّلطة والنُّفوذ والهيمنة، أو بعض القوى الَّتي يُمكِن التَّأكيد على بروزها كقوى إقليميَّة أو قاريَّة كإيران وتركيا والباكستان والهند على سبيل المثال لا الحصر. وفي العادة تحصل هذه التَّطوُّرات والأحداث «حينما تَحدُث تغيُّرات كبيرة في خريطة القوى على السَّاحة الدّوليَّة، وعلى الأغلب عِندَما تنهار امبراطوريَّة كبيرة، ـ أو يبدأ نفوذها بالتَّراجع ـ فتجلب معها موجة من الفوضى وعدم الاستقرار إلى المناطق المحيطة بها ـ بنفوذها ـ وتستمرُّ هذه الاضطرابات لسنين عديدة» وهو ما حدَث ويَحدُث بالفعل مع تراجع مساحات نفوذ وهيمنة الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة على رقعة الشَّطرنج العالَميَّة كما سبَق وأشَرنا. الأمْر نَفْسه الَّذي حدَث بعد انهيار الاتِّحاد السوفيتي وأدَّى إلى بروز الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة كقوَّة مركزيَّة حينها. حيثُ يؤكِّد بريجنسكي قائلًا: «صير انهيار الاتِّحاد السوفيتي قلَب أرض أوراسيا فراغًا سياسيَّا». على ضوء ذلك باتَ من المؤكَّد استمرار ارتفاع سقف الفوضى والاضطرابات السِّياسيَّة والأمنيَّة والَّتي ستدفع الدوَل إلى مزيدٍ من الصِّدام العسكري في مراحل ما. وباعتقادي الشَّخصي، إنَّ دخول بعض الفواعل الدّوليَّة الثَّانويَّة كمؤثِّرين على خريطة الصِّراع الدّولي كالتَّنظيمات الإرهابيَّة سيرفع أو يزيد من سقف الفوضى العابرة للحدود الوطنيَّة، يُضاف إلى ذلك توسُّع دائرة الخلافات السِّياسيَّة حَوْلَ العديد من القضايا ذات المصالح المشتركة بَيْنَ الدوَل، الأمْر الَّذي سيؤدِّي بِدَوْره كذلك إلى مزيدٍ من التَّوتُّر بَيْنَ الوحدات السِّياسيَّة الدّوليَّة. ومن أبرز الأمثلة الحاضرة على هذا الشَّكل من الفوضى والاضطراب في العلاقات الدّوليَّة، ثلاثي الصِّراع الكبار، أميركا ـ روسيا ـ الصِّين، وتدخُّل الولايات المُتَّحدة وروسيا في السِّياسة الداخليَّة للعديد من الدوَل كما هو الحال في فنزويلا، يُضاف إلى ذلك التَّوتُّر الحاصل بَيْنَ الهند والباكستان، ومن المؤكَّد كذلك التَّوتُّر والصِّراع الحاصل في اليمن والصِّراع العربي ـ «الإسرائيلي» في فلسطين وغيرها العديد من الأمثلة على هذا الكمِّ الهائل من فوضى العلاقات الدّوليَّة، لدليل واضح على الاتِّجاه الدّولي نَحْوَ مزيدٍ من الاضطراب والتَّوتُّر. يُضاف إلى ذلك ارتفاع سقف شكل آخر من أشكال الإضرابات والفوضى، وهي الَّتي نقلها زبجنيوبريجنسكي في كِتابه الفوضى ـ الاضطراب العالَمي عِندَ مشارف القرن الحادي والعشرين ـ عِندَما قال هذا الأخير «لذلك كان جيمس سجالنجر مصيبًا بنَحْوٍ لا يَقبل الشَّك عِندَما توصَّل في عام 1992 ـ أي قَبل 27 عامًا ـ إلى أنَّ النِّظام العالَمي المستقبلي سترسمه سياسة القوَّة والصِّراعات القوميَّة والتَّوتُّرات العِرقيَّة. وهنا يُمكِن للمرء أن يضيفَ احتماليَّة استخدام أسلحة الدَّمار الشَّامل في مرحلة ما ضِمن دوَّامة العُنف العالَميَّة الجيوسياسيَّة».
محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية [email protected] MSHD999 @