الخميس 05 يونيو 2025 م - 9 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

من نكهة السوشي إلى عبير اللبان .. دروس فـي فهم الآخر

من نكهة السوشي إلى عبير اللبان .. دروس فـي فهم الآخر
الأحد - 01 يونيو 2025 05:34 م

نبيلة رجب

20

لم أكُنْ أتخيَّل أنَّ طبَقًا صغيرًا مِثل السوشي سيجعلني أُعيد التَّفكير في مفهوم «الاختلاف». قَبل نَحْوِ عشرين عامًا، كنتُ في مطعم ياباني في البحرين، أواجه شيئًا غريبًا بالنِّسبة لي. لم يكُنِ الطَّبَق مخيفًا، لكنَّه لم يكُنْ مألوفًا أيضًا. تذوَّقتُ، تردَّدتُ، لم أُحبَّه كثيرًا، لكنَّني لم أنفرْ مِنْه. وفي تلك اللَّحظة البسيطة، شعرتُ بأنَّني بدأتُ أخرج قليلًا من القوالب الموروثة الَّتي كنتُ أعيش فيها دُونَ أن أنتبهَ. اليوم، وأنا أتأمَّل في ما يعنيه «التنوُّع الثَّقافي»، لا يخطُر ببالي ما قرأتُه أو سمعتُه في المناسبات الرَّسميَّة، بل أعُودُ إلى تلك التَّجربة البسيطة. أعُودُ لهذا الطَّعم المختلف الَّذي جعلني أفتح بابًا صغيرًا باتِّجاه عالَم أوسع لا يُشبه ما اعتدتُ عَلَيْه، لكنَّه لا يُخيفني. يحتفل العالَم كُلَّ عام في الـ(21) من مايو باليوم العالَمي للتنوُّع الثَّقافي من أجْلِ الحوار والتَّنمية، يأتي هذا اليوم لِيعيدَ إلى أذهاننا أنَّ الاختلاف لا يعني الانقسام، وأنَّنا نستطيع أن نعيشَ في مساحة واحدة دُونَ أن نُشبَه بعضَنا. في مُجتمعات الخليج، يبرز التنوُّع في تفاصيل كثيرة: في الأسواق، في المطاعم، في الشَّوارع، وحتَّى في اللَّهجات. لكن عُمان ـ الَّتي زرتُها أكثر من مرَّة ـ لها طريقتُها الخاصَّة في هذا التَّعدُّد. في مطرح، تختلط رائحة اللّبان العُماني بنكهة البهارات القادمة من بعيد، وفي مسقط القديمة ترى عمارةً تُشبه الذَّاكرة، فيها شيء من الهند، وشيء من زنجبار، وكُلُّها تعيش في انسجامٍ لا يحتاج إلى شرح. وفي ظفار، الجنوب له لونُه وصوتُه ولهجتُه وروحُه الخاصَّة. ليسَتْ نسخة من العاصمة، لكنَّها ليسَتْ بعيدةً عَنْها. وبَيْنَ صحار ونزوى ومسندم، تتغيَّر التَّفاصيل، لكنَّ الرُّوح العُمانيَّة تبقَى حاضرةً في كرَمِ اللِّقاء، وفي ترحاب المجالس، وفي احترام مَن يدخل البلد ضيفًا أو مُقِيمًا. عُمان بلدٌ يَفْهم التَّعدُّد، لا يتعامل معه بوصفِه حالة طارئة، بل كشيء طبيعي تشكَّل عَبْرَ قرون من التِّجارة والسَّفر والانفتاح على العالَم. والمهرجانات الثَّقافيَّة، كمَعرِض مسقط الدّولي للكِتاب أو مهرجان صلالة، لا تقتصر على كونها فعاليَّات، بل مساحات تُفتح للنَّاس كَيْ يَروا أنْفُسهم في مرآة الآخر. لكنَّ الحديث عن التنوُّع لا يَجِبُ أن يظلَّ في سياق الاحتفالات. الأهمُّ مِنْه هو كيف نعيشُه في تفاصيل الحياة: كيف نتحدث مع مَن يختلف عنَّا؟ كيف نُصغي له؟ كيف نرحِّب به دُونَ أن نشعرَه بأنَّه «استثناء»؟ ليس مطلوبًا أن نتبنَّى كُلَّ ما هو مختلف، لكن يكفينا أن نتوقفَ عن رفضَه؛ لأنَّه لا يُشبهنا. وهذا لا يتحقق إلَّا حين نتحرَّر من فكرة أنَّ ما نعرفه هو الصَّواب المُطْلق، ونسمح لأنْفُسنا بفتحِ نوافذَ جديدة. أحيانًا لا نحتاج إلى تغيير قناعاتنا، بل فقط إلى أن نُصغيَ بصِدق، وبِدُونِ أحكام مسبقة. أعُودُ للسوشي.. لا كوجبة، بل كدرس صغير علَّمني أنَّ البابَ نَحْوَ العالَم الآخر قد يكُونُ طبَقًا، أو لهجةً، أو وجْهًا لا يُشبه وجهي. لكنَّه في النِّهاية، يُضيف لي، لا يأخذ منِّي. ورُبَّما السُّؤال الَّذي يستحقُّ أن نتوقفَ عِندَه بهدوء: كيف يُمكِن لنا، نحن في الخليج، أن نواصلَ هذا التَّعايش الجميل مع التنوُّع، ونرتقي به إلى مشاركة أعمق تثري الجميع؟ عُمان، الَّتي لطالَما كانتْ معبرًا بَيْنَ الثَّقافات ومرفأً للزَّائرين، تعلّمنا بحكمتها الهادئة، أنَّ الانفتاح لا يحتاج إلى ضجيج. وفي كُلِّ زيارة لي، كنتُ ألمسُ هذا الحضور الهادئ للاختلاف: لا يعلن عن نَفْسه، لكنَّه موجود، مرحَّب، وواثق. فكُلُّ اختلاف نحترمه، هو مساحة نكتشف فيها أنْفُسنا من جديد، وخطوة نَحْوَ إنسانيَّة أكثر نضجًا واتساعًا.

نبيلة رجب

كاتبة من البحرين

[email protected]