لا يُمكِن للمراقب السِّياسي الحذق إلَّا أن يتنبأَ بأنماط سُلوك دوَل العالَم الكبرى الآن، بل وفي المستقبل كذلك: إذ إنَّ ما يجري، أو يبدو أنَّه ما سيجرى هو أشْبَه بعالَم البحار، إذ تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصَّغيرة، على عكس ما جرَى لسمكة همنجواي العملاقة الَّتي قضمتها آلاف الأسماك الصَّغيرة، فلم تصلْ سمكة (الشَّيخ والبحر) The Old Man and the Sea إلى برِّ الأمان إلَّا بعد أن تحوَّلتْ إلى مجرَّد هيكل عظمي، بلا لحم ولا جلد ! أمَّا عالَمنا اليوم، فإنَّه يميل إلى أن تبتلعَ الدوَل الكبيرة الدوَل الصَّغيرة: كَيْ يبقَى الكبير كبيرًا، ويغدو أكبر مع مرور الزَّمن! وبعكسه كيف يُمكِن للمرء أن يفهمَ مطالبة الرَّئيس الأميركي، دونالد ترامب، بضمِّ كندا وجزيرة «جرين لاند» إلى الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة؛ كَيْ تتحولَ الدَّولة الأخيرة إلى دَولة أكبر حجمًا وأكثر قدرة على قضم المزيد من الأقاليم الجغرافيَّة، بل وحتَّى الدوَل ! وإذا ما كانتْ أوروبا «المتحضِّرة» قد نسيَتْ حروبها الدمويَّة البَيْنِيَّة على سبيل تأسيس «السُّوق الأوروبيَّة المشتركة»، ثمَّ إلى تكوين «الاتِّحاد الأوروبي»، فإنَّ الصِّين تبقَى تتطلع، بل وتتوثب إلى عودة «تايوان» على سبیل تأسیس «الصِّين الموَحَّدة الكبرى»! وإزاء هذا النَّمط من التَّطوُّر الجيوسياسي المتوقَّع (حيثُ تأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصَّغيرة) يتوجَّب على دوَل العالَم الصَّغيرة الحجم (ومِنْها بعض الدوَل العربيَّة الشَّقيقة) أن تجدَ لِنَفْسها موطئ قدَم بَيْنَ الكيانات السِّياسيَّة العملاقة، كالصِّين والاتِّحاد الرُّوسي والولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وإلَّا فإنَّ شهيَّة الدوَل الكبيرة لا حدود لها في ظلِّ تنافس استقطاب كوني جديد لا يرحم، تنافس من أجْلِ البقاء والوجود في عالَم «البقاء للأقوى» والبقاء للأكبر حجمًا ! وإذا كانتِ الوحدة العربيَّة مجرَّد «حلم فردوسي» لاعب خيالات وخيلاء رجال النَّهضة العربيَّة قَبل أكثر من قرن، فإنَّه قد أصبح اليوم ضرورةً من ضرورات البقاء والتَّواصُل في عالَم غدَا أشْبَه ما يكُونُ بـ»عالَم الغاب» حيثُ يفترس الكبير الصَّغير بلا رحمة!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي