قال النَّبيُّ عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام: (الدِّين النَّصيحة).. إنَّ اقتران النَّصيحة بالدِّين لم يأتِ من فراغ، ولهذا قُرنت بأخلاقيَّات مُهمَّة، ولعلَّ أهمَّها أنْ تكُونَ خاليةً من الرِّيبة، وأنْ تُقالَ سرًّا لا جهرًا، ونيَّتها الإصلاح والبناء لا التَّلويث والهدم.. وللأسف، فهي أحيانًا تُستخدَم بطريقة سلبيَّة وتحمل بَيْنَ نيَّاتها (الخراب). ما نجده اليوم من تداول أخبار الغير في المنصَّات الإلكترونيَّة أو في المجالس، وترويجٍ لأحاديث خاصَّة بعيدٍ كُلَّ البُعد عن النَّصيحة، بل هو شكلٌ خفيٌّ من الغِيبة والنَّميمة، يقول الشَّاعر: لسان الفتى نِصفٌ ونِصفُ فؤاده فلم يبقَ إلَّا صورةُ اللَّحمِ والدَّمِ لِنتَّفقْ، في هذا الزَّمن أصبحتِ السَّيطرة على المعلومة من أصعبِ التَّحدِّيات الَّتي يواجهها المُجتمع، خصوصًا وأنَّ عصرَنا الحالي تتسارع فيه الأقاويل وتنتشر فيه الرِّوايات كالنَّار في الهشيم، ويُصبح من السَّهل أنْ ينقلَ الإنسان «ما سمِعَه» عَبْرَ شعار: «مجرَّد نصيحة» أو «أمانة أبلغك بما يقال» أو «أنا خائف عَلَيْكم». لكنَّ هذا السُّلوك يحمل في جنباته خطرًا داهمًا على استقرار العلاقات الإنسانيَّة، خصوصًا داخل البيوت وبَيْنَ الأصدقاء والشُّركاء، بل قَدْ يهدمُ ثقةً بُنيت خلال سنوات بكلمةٍ واحدة لا تُقال في وقتِها ولا بمكانها الصَّحيح.. يقول المولى عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). وبِغَضِّ النَّظر، فقَدْ تكُونُ المعلومة المتناقلة صحيحةً، ولكن هل صحَّتها تُبرِّر نَشْرَها؟ وهل كُلُّ ما يُعرف يُقال؟ في الحقيقة، كثيرٌ من «الحقائق» لا تُفيدُ الطَّرفَ الآخر إلَّا بجرحِه، أو زعزعة ثقته فِيمَن يُحبُّ، أو إدخال الشَّك في قلبِه. من هُنَا تتجلَّى خطورة نَقْلِ الكلام ـ حتَّى الصَّحيح مِنْه ـ لأنَّه يُخرج الحقيقة من سياقها لِيزرعَ الفتنة باِسْمِ النَّصيحة، ويُحوِّل المعلومة إلى خنجرٍ يُطعن به أقرب النَّاس، فرفقًا بقلوب الآخرين: (إنَّ القلوب إذا تنافر ودُّها.. شبه الزُّجاجة كسرها لا يُجبر). كم من علاقة زوجيَّة تفكَّكتْ بسبب ما نقَلتْه قريبةٌ أو صديقةٌ «لِوَجْهِ الله» كما تزعم؟ وكم من شراكة انتهتْ لأنَّ طرفًا ثالثًا رأى أنَّ من واجبِه أنْ يُعلِمَ الآخر بما قِيل عَنْه؟ إنَّ البيوت تُبنى على الثِّقة، وتُهدَم بالظُّنون، كما أنَّ كُلَّ إنسانٍ مسؤولٌ عن الكلمة الَّتي يقولُها أو ينقُلها. وليس مطلوبًا من المرء أنْ يكُونَ لسانَ غيرِه، ولا أنْ يفتحَ قلْبَ النَّاس لِبَعضِهم بالكلمات الملغومة. فحتَّى إنْ علمتَ شيئًا، لا يعني أنَّه يَجِبُ أنْ تُفشيَه. والسُّكوت في كثير من الأحيان أبلغُ من الكلام، وأصْدَقُ في النيَّة، وأقْربُ للإصلاح. واحرصْ على حفظِ القلوبِ من الأذى فرجوعُها بعدَ التَّنافرِ يصعبُ السُّكوت في هذه المواقف ليس ضعفًا، بل حكمة ورحمة، وأحيانًا... هو النَّصيحة بِعَيْنِها. فَلْنُراجعْ أنْفُسَنا، لا فقط فيما نقوله، بل في لماذا نقوله؟ ولِمَن؟ فليس كُلُّ صدقٍ يُقال، ولا كُلُّ نيَّة طيِبة تُبرِّر كلمة مُؤذية.
المنتصر بن زهران الرقيشي
كاتب عماني ـ الاتصالات الدولية والعلوم السياســـــية
مدرب متعاون في تنمية مهارات المدربين (TOT) @mumtaserzr